السلام عليكم ورحمت الله وبركاته
تزكية النفس؛ مقدّمة إصلاح الواقع
يبدأ الإصلاح الحقيقي في المجتمع البشري من حيث القرار النهائي والحاسم الذي يتّخذه الإنسان على صعيد الأفراد والجماعات، ومركز هذا القرار، ومنطلق العزم هو ذات الإنسان؛ فإذا ما طابت هذه الذات قرّرت الصلاح والإصلاح، وإذا خبثت صارت الى الفساد والإفساد. والقرآن خير الشهود في هذا المجال إذ يقول: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ((الاعراف/5 8
فالإنسان بسلوكه وعمله وتصرّفاته، انعكاس وتجسيد لضميره ونفسه وما يحمل فيهما من نوايا، كما يقول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا( (الشمس/9-10) فعندما تكون النفس الإنسانية مزكّاة، فانّ جلّ حياة الإنسان سوف ينقضي في التزكية والخير والإصلاح. أما عندما تكون فاسدة ملوّثة مدنّسة، فانّ حديث الإصلاح في الحياة سوف لا يتغلغل فيها، ولا ينفعها شيئاً.
النفس منطلق الإصلاح
إنّ بداية الإصلاح في المجتمع الإنساني تبدأ من حيث مركز القرار، وهو النفس، التي لابد أن يكون صاحبها متصلاً بها لكي يكون الإصلاح؛ فإذا ما صلحت نوايا الناس ونفوسهم ظهرت بوادر الإصلاح. ولذلك كان التركيز القرآني على هذه النقطة أكثر من التركيز على أنواع الإصلاح الأخرى التي تتفرّع من مركز قرار الإصلاح في ذات الإنسان وضميره، كالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الإصلاح التربوي. ذلك لأن الحديث القرآني عن تلك الأنواع من الإصلاح لم يكن بمستوى الحديث عن إصلاح النفس الإنسانية، وتزكيتها، وتنمية مواهب الخير وبواعث الصلاح فيها.
ترى ما الذي يريده الإنسان؛ الدنيا أم الآخرة، وما هو هدفه، وإلى أين تسير به إرادته التي هي حالة نفسية كما هو معلوم؟
هذه التساؤلات وغيرها يعكس القرآن الكريم الجواب عليها في شتى الصور، كقوله تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وَمِنْهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ( (البقرة/200-201).
مشكلة الحضارة
والحضارة الجالهية الراهنة القائمة على أساس الفساد والإفساد الفكري والثقافي، لـم تنتبه الى هذه الحالة، أو ربّما تجاهلتها؛ أي كون النفس الإنسانية هي مركز القرار في حياة الإنسان، ولذلك راحت هذه الحضارة تتخبّط خبط عشواء؛ فتارة تعلّل المشكلة بالاقتصاد، وعلى ضوء ذلك مضت تبحث وتجرّب الأفكار والآراء التي وضعتها من أجل الإصلاح الاقتصادي، فاعتبرت الاقتصاد إله الأرض وعلّلت كل المشاكل، وأنواع القلق الفكري والثقافي والتربوي والسياسي الذي يسود الحياة الإنسانية بالاقتصاد وبنيته الهزيلة.
هذا من حيث الاقتصاد، وهناك من ينظر الى المشكلة (مشلكة الإصلاح)، ويرى علاجها بالاباحية، والتحلّل الجنسي، كما يرى ذلك (فرويد) الذي كان يعتقد أن عقدة الجنس مصدر كلّ فساد في الأرض، لذلك نهض يدعو الى سيادة الإباحية، والحياة البهيميّة بين الناس، حتّى يصلوا الى حدّ الاشباع الجنسي الذي يكمن فيه - حسب زعمه - صلاح الإنسانية والحضارة.
وهناك فريق آخر راح يعزو مشكلة الإصلاح الى الاقتصاد أيضاً، ولكن على خلاف الرؤية الماركسية، وهو ما يطلقون عليه اسم (اقتصاد السوق)؛ أي فتح الأبواب والمجالات الاقتصادية بشكل حرّ، ونتائج هذه النظرية وآثارها السلبية المدمّرة هي المعاناة التي تعيشها الكثير من الشعوب.
وعلى هذا؛ فانّ سرّ فشل الحضارة الجاهلية المعاصرة بأنواعها في عمليه الإصلاح هو جهلها وعدم معرفتها بمنطلق الإصلاح، ومركز القرار في حياة الإنسان، وهذا ما جعلها تتخبّط في مسيرها، فتتّجه مرة ذات اليمين، وأخرى ذات الشمال، وفي كل يوم نراها في مسار ينتهي بها الى الفشل، وخيبة الأمل.
وبناء على ذلك فانّ سفينة البشرية لا يمكن لها أن ترسو على شاطئ النجاة وساحل الخير إلاّ عندما تبحث عن مشكلتها في النفس الإنسانية، التي هي مركز حياة الإنسان؛ فإن صلحت صلح ما سواها، وإن فسدت فسد ما سواها.
والقرآن الكريم يحدّثنا عن هذه النقطة الأساسية والمهمّة قائلاً: (تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( (القصص/83) فـإذا ما صلحت الإرادة الإنساينـة، وأضحت طيبة زاكية طاهـرة، فانّ الله تبـارك اسمـه سوف يجعل مصـير البشرية ينتهي إلى العاقبة الطيبة في الآخرة.
المادّة ليست سبباً للاصلاح
وقـد سبق الحديث قبل هذه الآية عن قارون وملكه العظيـم الذي جـاء وصفه فـي قولـه تعالــى: (وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَـآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُـوأُ بِالْعُصْبَةِ اُوْلِي الْقُوَّةِ( (القصص/76)؛ أي إن ما كان يمتلكه قارون لم يكن يستطيع أن يحمل مفاتحه سوى مجموعة من البشر الأقوياء، فهل إن ما كان يمتلكه قارون من خزائن تمخض عن الصلاح له ولمجتمعه؟ كلا بالطبع؛ فالغنا المادي، والثروة الطائلة، والقوة الاقتصادية البعيدة عن التزكية... كل ذلك لم ينفع قارون في إصلاح نفسه، وإصلاح مجتمعه، فهو لم يكن بثرواته وكنوزه يطلب رضوان وثواب ربه تعالى، ولم يكن يريد بها وج الكريم، ولذلك أصبحت هذه الثروات والخزائن مصدر علوّ، وفساد في الأرض.
واليوم نحن ننظر الى المجتمعات المتقدمة التي تعتبر رائدة التطوّر الحضاري المعاصر كالمجتمع الأميريكي، فهل سينفعهم ما بلغوه من تقدّم اقتصادي بعيد عن إطار الدين والأخلاق في إصلاحهم، ويحدّ من الفساد الاجتماعي والأخلاقي الذي يعيشونه اليوم، وهل سيكون في مصلحتهم ومصلحة البشرية؟؟
الجواب بالنفي طبعاً؛ فعندما تفسد النية فان مسار الإنسان سينتهي الى الدمار والخراب، ذلك لأن مثل النية كمثل سكة حديد تنتهي الى واد عميق؛ فالذي يسير على هذه السكة لابد أن يكون مصيره السقوط والهلاك. وهكذا الحال بالنسبة الى الحضارة الجاهلية المعاصرة فانّ مثلها كمثل سيّارة يقودهان رجل ثمل، فهل من الممكن أن نأمن سلامتها والركوب فيها؟
فعندما تكون البداية بداية صلاح وخير، وعندما يكون الأصل والنبع صافيين، فانّ كل الفروع المنطلقة من هذا الأصل النقي ستكون - هي الأخرى - صافية، نقية كصفاء ونقاء الأصل.
العصبية ليست من الدين
إنّ على الحركات الإسلامية أن تنتبه الى هذه الحقيقة القرآنية، وهي التركيز على نفس الإنسان ونيّته؛ فعندما نجمع حولنا الجماعات فعلينا أن ننظر تحت أي شعار، وباسم أي شيء نجمعها؛ هل باسم العصبية والقومية والاقليمية والطائفية، أم باسم الدين والعقيدة؟
إن العصبية ليست من الدين في شيء؛ بل إن الدين ينبذها، ويدعو الى تجنّبها بكل أشكالها، وهؤلاء المتعصّبون يخدمون في الظاهر الدين، لكنهم - في الواقع - إنما يخدمون عصبيّاتهم. وللأسف فانّ العصبيات هي التي تحرّك بعضنا، لا روح خدمة الهدف المشترك. ومن أجل القضاء على هذه الظاهرة السلبية، يجب أن نعتمد في أعمالنا النوايا الخالصة لله عز وجل؛ علماً إن هذا هو أول شعار حمله الإمام الحسين عليه السلام في رحلته الجهادية الى كربلاء، عندما هتف هتافه الخالد في ضمير التأريخ قائلاً: "إني لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي".
فلقد كشف عليه السلام منذ البدء عن نيته، وهدفه من الخروج ضدّ يزيد، إذ كان خروجه هذا لطلب الإصلاح، لا للحكم والسلطة..
وتأسيساً على ما سبق، فانّ النية ينبغي أن تكون خالصة، والهدف مقدّساً، وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله: "إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله، ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".(3 8
من هنا؛ يجدر بالمؤمنين أن يزكّوا أنفسهم، ويخلصوا نيّاتهم، ويجعلوا أهدافهم من وراء العمل الرسالي نزيهة يبتغون بها وجه الله سبحانه، لا من أجل منصب يبتغونه في المستقبل، أو زعامة يحلمون بالوصول إليها، ولا من أجل عزة طائفتهم أو جماعتهم أو حزبهم.. فمثل هذه العصبيات وغيرها لا تنفع يوم القيامة، بل إنّها تعود بالضرر على الإنسان، وتدنّس صفحة أعماله.
فلتكن نوايانا خالصة لوجه الله، وإلاّ فسوف لا تقبل منّا أعمالنا مهما كثرت، ومهما اجتهدنا فيها؛ وقد قال لقمان الحكيم: "وأخلص العمل فإنّ الناقد بصير".(3 9
ودمتم بحفظ الله ورعايته
الموضوع الاصلي
من روعة الكون