لقد وقفت أتأمل كثيرا وأنا اقرأ من قصائده
انه نموذج للشعر العربي الأصيل، الذي يعبر عن وجدان عاشق فارس ، يعتز بنسبه العريق ، وتسري في عروقه دماء عربية أصيلة جعلته دائم الفخر والاعتزاز بنفسه ومكانته ، ولم لا ؟ وهو الشاعر الفارس الأمير سيف الدولة أمير حلب ، أشهر أمير عربي خلده شاعر العربية الكبير (( المتنبي )) في سيفياته التي قالها وهو في جواره، يصف وقائعه ، ويسجل أحداث زمانه .
هل عرفتموه انه الشاعر العربي الكبير أبو فراس الحمداني ، ولد بالموصل ، قتل أبوه وهو لا يزال طفلا صغيرا ، فتربى على يدي عمه وزوج أخته سيف الدولة، نشأ أبو فراس على الفروسية والأدب ، ثم قلده سيف الدولة الإمارة على (( منبج وحران )) وأعمالها وهو لا يزال حديث السن حيث كان عمره آنذاك لا يتجاوز السادسة عشر ، وكان يصطحبه عمه في المعارك، وما كان أكثرها ، ضد الرومانيين الطامعين في الوطن العربي الذي تفتت بانحلال الدولة العباسية ، وقدر لدولة الحمدانيين ولسيف الدولة أن يكونا القلعة الوحيدة الصامدة في وجه الدولة البيزنطية ، وان يكونوا الدرع الواقي للثغور العربية في مواجهة أعظم دول ذلك الزمان .
ولكنه يؤسر في إحدى معارك سيف الدولة مع الروم ، وينقله الروم الى القسطنطينية، ويظل في الأسر اربع سنوات ، ويقال انها كانت سبع ، توالت رسائل ابي فراس الحمداني الى سيف الدولة يطلب بها مفاداته . ويختلف المؤرخون في سبب بطء سيف الدولة وتراخيه في مفاداته ، على أي اطلق سراح ابي فراس الحمداني بعد ان افتداه ابن عمه ، فولاه سيف الدولة امارة حمص ، ثم مات سيف الدولة بعد عام واحد . فقامت الحرب بين ابي فراس وأمير حلب الجديد ابي المعالي سيف الدولة وابن اخت ابي فراس نفسه .. وتنتهي الحرب بمقتل ابي فراس الحمداني قرب حمص ، وينتهي معه طموحه وفخره وفروسيته..
ولأبي فراس ديوان من الشعر القوي الجزل ، العذب الأنغام ، الصادق العطفة والتصوير ، يسجل فيه تاريخ حياته ويصور فروسيته ويفخر بمآثر أسرته ، ومن بين هذا الديوان اشتهرت رومياته ( القصائد التي قالها وهو لا يزال في الأسر ) وهذه القصائد هي التي تكشف عن مدى شكواه وعمق حزنه .
لكن قصيدة واحدة من قصائد ابي فراس الحمداني يتاح لها من الذيوع مالا يتاح لبقية قصائده ، تلك هي مطولته (( أراك عصي الدمع )) التي تصور ادق التصوير لوجدان هذا الشاعر الفارس ، الذي يذوب رقة وعاطفة ولكن في شموخ وكبرياء واعتزاز ، ومن خلال نفس ابية ترفض كل ذلة ومسكنة ، ولا تعرف الا الإباء والجرأة والإقدام .
فالشاعر الذي يذوب وجدا وهياما في مواقف الحب والصبابة ، لا يحني رأسه ، ولا يدوس على كرامته ، لكنه دائما شامخ أبي ، شأنه في حروبه ومعاركه مع الخصوم والاعداء
هذه القصيدة التي اشتهرت عندما دخلت ساحة الغناء العربي ، ورددتها الألوف ، معجبة بعاطفة الشاعر الفارس ، وكبريائه وشممه ، وفنه الشعري المقتدر ، وصياغته العذبة القوية .. هذه القصيدة هي التي سوف نتوقف عندها الآن قراءة وتذوقا وتأملا .......
يقول شاعرنا الكبير ابي فراس الحمداني في قصيدته المشهورة
(( اراك عصي الدمع ))
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى ،أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا بت ظمآنا فلا نزل القطر
حفظت وضيعت المودة بيننا
وأحسن من بعض الوفاء الغدر
وما هذه الأيام إلا صحائف
لأحرفها ، من كف كاتبها ، بشر
بنفسي من الغادين في الحي غادة
هواي لها ذنب ، وبهجتها عذر
تروغ إلى الواشين في ، وإن لي
لأذنابها عن كل واشية وقر
بدوت وأهلي حاضرون ، لأنني
أرى أن دارا لست من أهلها قفر
وحاربت قومي في هواك ، وإنهم
وإياي ، لولا حبك ، الماء والخمر
فإن يك ما قال الوشاة ولم يكن
فقد يهدم الإيمان ما شيد الكفر
وفيت وفي بعض الوفاء مذلة
لإنسانة في الحي شيمتها الغدر
وقور ، وريعان الصبا يستفزها
فتأرن أحيانا كما أرن المهر
تسائلني : من انت ؟ وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت لها : لو شئت لم تتعنتي
ولم تسألي عني ، وعندك بي الخبر
فقالت : لقد أزرى بك الدهر بعدنا
فقلت : معاذ الله ، بل انت لا الدهر
وما كان للأحزان لولاك مسلك
الى القلب ، لكن الهوى للبلى جسر
وتهلك بين الهزل والجد مهجة
إذا ما عداها البين عذبها الهجر
فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق
وأن يدي مما علقت به صفر
وقلبت أمري لا أرى لي راحة
اذا البين أنساني الح بي الهجر
فعدت إلى الزمان وحكمها
لها الذنب لا تجزي به ولي العذر
فلا تنكريني يا ابنة العم ، انه
ليعرف من انكرته البدو والحضر
ولا تنكريني ، إنني غير منكر
إذا زلت الأقدام ، واستنزل الذعر
وإني لجرار لكل كتيبة
معودة أن لا يخل بها النصر
وإني لنزال بكل مخوفة
كثير الى نزالها النظر الشزر
فاظمأ حتى ترتوي البيض والقنا
وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ولا أصبح الحي الخلوف بغارة
ولا الجيش ، ما لم تأته قبلي النذر
ويا رب دار لم تخفني منيعة
طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وحي رددت الخيل حتى ملكته
هزيما ، وردتني البراقع والخمر
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها
فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبت لها ما حازه الجيش كله
ورحت ولم يكشف لأبياتها ستر
ولا راح يطغيني بأثوابه الغنى
ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره
إذا لم أصن عرضي فلا وفر الوفر
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى
ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ
فليس له بر يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي : الفرار أو الردى؟
فقلت : هما أمران احلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني
وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
يقولون لي بعت السلامة بالردى
فقلت : أما والله ، ما نالني خسر
وهل يتجافى الموت عني ساعة
إذا ما تجافى عني الأسر والضر ؟
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره
فلم يمت الانسان ما حيي الذكر
ولا خير في دفع الردى بمذلة
كما ردها يوما بسوءته عمرو
يمنون أن خلو ثيابي ، وإنما
علي ثياب من دمائهمو حمر
وقائم سيف فيهمو اندق نصله
وأعقاب رمح فيه قد حطم الصدر
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فإن عشت ، فالطعن الذي يعرفونه
وتلك القنا والبيض والضمر الشقر
وإن مت فالإنسان لا بد ميت
وإن طالت الأيام وانفسح العمر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به
وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ونحن اناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
أعز بني الدنيا وأعلي ذوي العلا
وأكرم من فوق التراب ولا فخر
الموضوع الاصلي
من روعة الكون