القصة
هذه القصة التي بين يدي أخذت مني الجهد الكثير ’ بطلي فيها عنيد ولم أجد له نهاية مناسبة إلى الآن أكملت تشكيل تفاصيلها وبنيانها, لم يبقى إلا نهاية البطل المحتومة ’ أأشنقه وأعلقه على مدخل المدينة أم اجعله يرمي بنفسه من أعلى الجسر ’ أم يطلق على نفسه رصاصة ترديه صريعا , أم اجعله يفر إلى وجهة مجهولة ..؟ الخيارات أمامي كثيرة لكني لم أستقر على خيار تبدو كلها مألوفة وكلاسيكية أريد أن تكون نهايته بطريقة خاصة , جديدة و مبتكرة , أطوي أوراقي في ضيق وحنق ’ أترك بطلي معلقا بلا نهاية ينتظر خاتمته التي لم أرسمها بعد أو أحدد معالمها ’ أرتشف من الفنجان الموضوع على مكتبي جرعة شاي محاولا تقليد بطلي في طريقة ارتشافه للشاي طريقة رسمتها له أنا في هذه القصة إلا أني أجد صعوبة بالغة في ذلك ’ بطلي مدمن شاي مثلي تماما الفرق بيننا انه يدخن وأنا لست مدخن . تفكيري يكاد يتوقف فلحد الساعة لم أجد بعد مخرجا لهذه القصة التي أخذت من وقتي الكثير ولا نهاية لهذا البطل الذي تركته ينتظر بين طيات الأوراق , تراه ما يفعل الآن ..؟ ربما جالس على حرف \" اللام \" فحرف \" اللام \" يشبه أريكة وثيرة , أور بما ينام على حرف \" الباء \" الذي يشبه السرير , أو ربما يلهو متأرجحا متعلقا في أسفل حرف \" العين \" ’ لست أعرف بالضبط بماذا يفكر بطلي الآن ’ أضنه يشعر بالرتابة والملل مثلي فكلانا وصل إلى طريق مسدود وأعلم جيدا انه لو علم أني عجزت عن صياغة مناسبة للقصة لما وافق أن يمضي معي ’ ولما فكر في أخذ دور البطولة أصلا . أرتشف آخر جرعة شاي من الفنجان وأعود إلى أوراقي لأجد مخرجا لبطلي , حتى منبهات الكافيين لم تفعل فعلتها في دماغي اليوم ’ لم تستطع تنشيط فكري و وكأنني مشلول فكريا ومعوق دماغيا , أذا كانت كل المخارج مغلقة لبطلي فسوف أقتله , يجب أن يموت وأتخلص من فصول هذه القصة التي لا تريد أن تنتهي . أمسكت قلمي بين أناملي وحاولت أن اخط به انتحار بطلي , أن أجعله يقطع شرايين معصمه بشفرة الحلاقة كان لتوه قد أنهى بها حلق ذقنه , لما هممت برسم هذه النهاية شعرت أن يد تمسكني من معصمي وتمنعني من الكتابة , حاولت مرة ثانية وإذا بالشيء الذي يمنعني يشل يدي ويمنعني من الكتابة لكن هذه المرة بقوة كبيرة حتى سقط القلم من يدي . فجأة قفز أمامي شيء من بين السطور والأوراق , انحنيت على مكتبي ممدا وجهي إلى سطح المكتب لأرى ما هذا الشيء , وإذا بي أرى نفسي لكني كنت قزما , إنه يشبهني في كل شيء في حركاته لبسه , هو أنا بشكل جديد وتفصيل جديد , أصبت بدهشة كبيرة وأنا أرى هذا القزم الذي يشبهني في حجم الأصبع , رافعا رأسه نحوي واضعا يديه خلف ظهره ينظر إلي , كان يبدو عليه الغضب الشديد ولم يكن الخوف باديا على ملامحه , حملته على راحة يدي ورحت أتأمله باستغراب ’ طلب مني أن احمله إلى أعلى كي نتقابل وجها لوجه ففعلت ذلك . قال لي : - لما تريد قتلي بهذه الطريقة الشنيعة , ثم ليس من حقك أن تختار لي هذه النهاية .؟ ولو كنت أعلم أن مصيري في قلمك سيكون هكذا لما سمحت لك أن تكتبني .. وعلمت أنه بطل قصتي خرج من عالم الحروف والكلمات ليدافع عن حياته , والصراحة أن الدهشة عقرت لساني ومنعته من النطق , إلا انه واصل كلامه قائلا : - ليس من حقك أن تقضي علي ’ فمن أعطاك هذا الحق كي تتصرف في مصيري على مزاجك , فمرة تجعلني متشردا , ومرة متسولا , ومرة تطعن قلبي بغدر الحبيبة ومرة تقتل أحلامي وتحطم مستقبلي , ألا يوجد عندك فسحة من أمل , وجرعة من حب ؟؟ . أني كائن مثلك لي مشاعري ولي أحلامي في الحياة فليس من نحقك أن تصادر أحلامي لمجرد نزوة الكتابة التي تنتابك , أني أعتقد حازما أنك مريض نفسيا , ففي كل قصة من قصك تجعلني أعيش المأساة , لقد طفح الكيل يا صاحبي ولم أعد أطق صبرا وعلينا أن ننهي كل ما بيننا , أنا لا أريد أن أعيش في أفكارك ولا أريد أن أكون إبداعا من إبداعك . كانت الساعة تقارب منتصف الليل لما كان بطلي يجلس على راحة يدي يناقشني في مصيره , لم أستطع النطق ببنت شفه فالأمر بالنسبة لي كان بمثابة الحلم الذي لا يصدق , استغل فترة صمتنا ليخرج من جيبه سيجارة وراح يدخن بنهم , أما أنا فانتابتني نوبة من سعال حاد فرائحة الدخان تثير حساسيتي , ولم يتمالك بطلي أعصابه ليلقي علي باللائمة عندما اتهمني بأني أنا سبب إدمانه على التدخين ولولا أن جعلته في قصصي مدخنا لما دخن أصلا وأعتبر أن هذا حصاد ما زرعت . وقبل ان يرمي بعقب السيجارة أخذ منها نفسا عميقا وراحت سحب الدخان تخرج من منخريه دائرية مشكلتا حلقات جميلة , التفت إلي وأردف قائلا : - أريد أن نفض الاتفاق بيننا فلا أريد أن أموت , ثم لما تريدني أن أموت ؟ لما لا تقتل نفسك ’ لما تريد أن ترسم خيبتك في الحياة في شخصي أنا ..؟ ما دخلي فيما أنت فيه من يأس ..؟ هذه المرة كان لزاما علي أن أرد على وقاحته وأوقفه عند حده وأعلمته أنه ليس مخولا كي يعالج معي ما أكتب أو يختار النهاية التي يريد أنا قررت أن يموت لذا فيجب أن يموت , إلا أنه واجهن عناده الذي وهبته إياه من خلال القصص التي جعلته بطلا فيها وراح يجادل ويحاول إقناعي بأن موته لن يكسبني شيئا بل على العكس من ذلك سأخسر بطلا ناجحا وربما لن أجد بطلا آخر في مثل تحمله وصبره , ولا أنكر إن قلت أن كلامه كان منطقيا فإذا قتلته فماذا سأكتب بعده , إلا أن إرادتي في أن أنهي هذه القصة التي طالت فصولها جعلني أحسم الأمر نهائيا , وحاولت إقناعه أنه صنيعتي أنا فبدوني أنا لما عرفه أو سمع به أحد ولما أشفق عليه القراء وسكبوا عليه عبرات سخية في أيام بؤسه وفقره وأيام عشقه ويأسه ولما عشقنه الكثيرات من القارئات وتمنين أن يجدن عاشقا مثله , ولما هممت بمسك القلم لأخط نهاية القصة ونهايته تشبث به ومنعني من الكتابة , وراح يركل الحروف والكلمات ويدفعها كي تسقط من على المكتب لتتبعثر في الأرض واشتد الجدال بيننا لدرجة الصراخ , ومن شدة غضبي حاولت سحقه بإبهامي كبعوضة قذرة إلا أني لم استطع فعل ذلك فلازلت بحاجة إليه على الأقل لأنهي به الفصل الأخير من القصة , ولأن أعصابي كادت تحترق أحضرت فنجان شاي جديد , ارتشفت جرعة صغيرة , طلب مني شاي فحملته إلى حافة الفنجان واشترطت عليه أن لا يدخن فوافق على مضض , وأطبق الصمت بيننا لحظة من الزمن ثن نظر إلي وهو جالس على حافة الفنجان وأنشأ يقول : - اسمعني جيدا يا صاحبي عشنا مع بعض حياة قاسية جدا كنت أستطيع أن أعيش سعيدا بحياتي عند كاتب آخر لكنه قدري , ورغم المحن بقيت وفيا لك , لكن أن تجعلني أموت فهذا أمر عظيم أني أريد أن أعيش ’ دعني أعيش فإن كنت لا تدرك قيمة الحياة فأنا أدرك معناها , رغم الآلام ورغم الأحزان , إن لم تستطع أنت الانتصار على أحزانك فصدقني أني أستطيع . الحياة ليست كما ترسمها أنت سوداء حالكة لدرجة العتمة . في الحياة تشرق الشمس بقرصها الجميل بعد ليل بهيم ويأتي الربيع بعد شتاء طويل , كذلك الإنسان يصنع الجمال من عزيمته وإرادته وقوة صموده , إن الجمال في الحياة يا صاحبي لا يصنعه اليأس منها بل تصنعه العزيمة والصبر والأقدام عليها مهما كانت ظروفنا قاسية , إن كنت قد قتلت أي أمل في نفسك فأنا لن اقتل الأمل فيه أحيا حتى وان كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت الذي ترسمه لي وتريده لي في قصتك إلا إني متشبث بالأمل ومتشبث بالحياة , أن كنت يا صاحبي قد قدمت استقالتك للحياة واستسلمت ليأسك فالتعلم أن هذا لا ينطبق علي فأنا لست أنت لذا يجب أن تعطيني حريتي . كان كلامه جميلا أحيا به في نفسي أحاسيس جميلة كنت قد فقدتها لا رف كيف اختفت ولا , كلامه ذاك بعث في نفسي الأمل وجعل الحياة في قلبي تشرق ربيعا جميلا يتبختر بحسنه بين الروح ويرقص القلب فرحا , طلبت منه أن يبقى معي لكنه رفض في حزم , ولم أستطع أن أحتال عليه خاصة وانه اعتبر أن دوره قد انتهى ولم يكن لي بد إلا أن أعطيه حريته .. ابتسم لي في فرح طفولي جميل, كانت تلك ابتسامتي أيضا التي فقدتها منذ زمن , وقبل أن يخرج ارتشف من حافة الفنجان شاي وطلب مني أن أفتح له النافذة ’ حملته على راحة يدي ووضعته على حافة النافذة مثل عصفور صغير , شكرني بأدب وتمنى لي النجاح غي الحياة واستدار نحو الخارج ولا أعرف كيف أستطاع إن يخرج من خلفه جناحين وحلق بهما عاليا إلى السماء ورحت أشيعه بنظراتي إلى أن اختفى . في الصباح فتحت عيوني ببطء شديد فوجدتني جالس على كرسي وقد نمت على مكتبي , ألقيت نظرة إلى الأوراق فوجدتها خالية من الكلمات والحروف , كانت بيضاء ناصعة كأن لم يكن بها في الأمس ألام وهموم أحزان وشجون و وهكذا رحل بطل قصتي وبدأت فصلا جديدا من قصة أخرى مع بطل جديد .
الموضوع الاصلي
من روعة الكون