السلام عليكم معشر الكرام
سأنقلكم إلى بعض أحداث يوم القيامة فلعل قلبا قاسيا يرق وعينا شحيحة تجود
عزيزي القارئ ..
هب أنك زعمت شيئا ثم جاء الشهود وأنكروه بالوثائق والبينات ما ذا سيكون موقفك أمام القاضي والحضور .. قطعا سيكون مخزيا
هذا والموقف على هذه الدنيا البسيطة .. كيف لو كان الموقف مشابها ولكن بين يدي الجبار جل جلاله .. فتوافد الشهود ليدلوا بالحقائق الباهرة !!
ولئن كان شهود الدنيا قد يكذبون أو يرتشون أو يمتطون الزور مركبا أو يبالغون في الحقائق،أو يهونون من الوقائع فإن شهود يوم القيامة صنف آخر من المخلوقات، يختلفون تماماً عن شهود الدنيا، لا تنفع معهم الرشاوي، ولا يعرفون المجاملات، يؤمرون من خالقهم فينطقون، لا يزيدون ولا ينقصون
شعارهم (( أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ))
وهذا بيان بالشهود في ذلك اليوم وأسمائهم وصفاتهم :
الشاهد الأول :
الأرض .. نعم، الأرض، يقول الله تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ٱلارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا [الزلزلة:1-5]،
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا قال: ((أتدرون ما أخبارها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة، بما عمل على ظهرها، أن تقول: عملت كذا وكذا، يوم كذا وكذا، قال :فهو أخبارها))
فياله من موقف عصيب .. حيث تشهد الأرض التي عملت عليها وتدلي بشهادتها وما رأته من منكرات وخطايا من زنا وتبرج أوربا وقتل، أوغش وظلم أوكذب وسرقة أوغيبة ونميمة أوسائر ما يغضب الله تعالى، وكذلك تشهد بما حدث عليها من خير في جميع صوره، من صلاة وصيام وزكاة وحج وبر وسجود فهل من متعظ وهل لمراقبة الله شأن في حياتنا ؟؟
الشاهد الثاني من شهود يوم القيامة :
هو الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يشهد على الشهود من كل أمة من الأمم ويشهد على أصحاب المعاصي والذنوب .. وتأمل الآيتين اللتين أبكتا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً [النساء:41، 42]
فما أقساه من موقف لهؤلاء العصاة حين يشهد عليهم أشرف الخلق .. حينها يتمنون أن لو كانوا ترابا تطؤهم الأقدام ولا يقفون هذا الموقف المخزي يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً
الشاهد الثالث من شهود يوم القيامة :
هم الأشهاد والمراد بهم الملائكة والرسل والعلماء، إذ يقول الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبّهِمْ وَيَقُولُ ٱلاْشْهَادُ هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ [هود:18]، فتلك الشهادة من الملائكة الذين كانوا يعبدون من دون الله يفضحون فيها عابدهم ..
وهي شهادة العلماء والدعاة على من خالفهم وعاداهم وكذب دعوتهم وآذاهم فيفضحون الكفرة، والمنافقين والعلمانيين، والمجاهرين من العصاة على رؤوس الخلائق، كما جاء في رواية البخاري: ((وأما الآخرون ـ أو الكفار ـ فينادى على رؤوس الأشهاد، هؤلاء الذين كذبوا على ربهم)).
الشاهد الرابع من شهود يوم القيامة :
الملكان قال الله تعالى: وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ [ق:21-23]. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
"أي ملك يسوقه إلى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله" لم يكن يتوقع أن يحدث له هذا بل كان غافلاً عن هذا الموقف، وعندها يبدأ الشاهد، وهو القرين الذي لازمه طيلة حياته، يكتب عليه ما يلفظ وما يعمل وهو غافل عنه، وعن دقة كتابته، يبدأ بالشهادة أمام الله تعالى: هَـٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ [ق:23]،
قال مجاهد رحمه الله: "هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به، قد أحضرته".
أما خامس الشهود وأشدهم وأقساهم :
فهي أعضاء الإنسان وجوارحه فستشهد عليه بما عمل في ذلك اليوم العصيب ولن يستطيع لها نقاشا أو جوابا فلقد ختمه الله على فيه وأنطق أعضاءه ((ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ))
وتأمل هذا النص القرآني الرهيب : (( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ )) [فصلت:19-22]
فإذا ما حشر أعداء الله وقادتهم الملائكة إلى النار ودعَّتهم إليها دعَّا أوقفوا للحساب فيسألهم الجليل سبحانه عن نعمه عليهم، في الدنيا وماذا فعلوا بها،
كما جاء في صحيح مسلم في مساءلة الرب جل وعلا لأحد هؤلاء العصاة، قبل أن يقذف في النار، يقول له الرب تبارك وتعالى: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع، فيقول: أي رب، آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول:ها هنا إذن، ثم يقول الآن نبعث شاهداً عليك، فيستنكر في نفسه، من ذا الذي يشهد عليه.
إنه يحسب أنه استطاع خداع الله بمثل هذا الجواب، وظن أنه مازال ذلك الإنسان الذي كان يشتري شهادة الآخرين، ويرغبهم بالمال، ليكتموا جرائمه وفساده فيقال لفخذه: انطقي، كما في صحيح مسلم، فتنطق، فخذه ولحمه وعظامه بعمله، ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65].
يقول الله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [فصل:20].
فعندها تنبعث الأصوات من كل مكان في جسد ذلك العاصي، وهو يرى بعينه، ويسمع بأذنه ما لم يكن يتوقعه، وما لا عهد له به ولا يستطيع الكلام، فقد ختم على فمه، فيداه تشهد، وسمعه يشهد، وبصره يشهد، وفخذه تشهد، وعظامه تشهد، وجلده يشهد، وهو مضطرب لا يستطيع الكلام لهول المنظر، الذي يراه ولا يكاد يصدقه،
حتى إذا خُلّي بينه وبين الكلام قال مخاطباً جلده لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا [فصلت:21]، وإذا بالجلود ترد عليهم أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء [فصلت:21]، ثم يزيد الموقف سوءاً عندما يسمعون التوبيخ من جلودهم وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:22]، وعندها لا يستطيع إجابة جوارحه إلا بالعتاب الذي لا ينفع في ذلك اليوم العصيب.
أيها القراء الكرام :
إن هذه الجوارح التي هي بإمرتنا، وتحت تصرفنا في هذه الدنيا، سنفقد السيطرة عليها في الآخرة، فإما أن تكون شاهدة لنا بخير، وإما أن تكون شاهدة علينا بشر.
فاتقوا الله في جوارحكم وأعضائكم إنها ستنطق غداً أمام الله عز وجل، وتكون الفضيحة هناك،
كم من نظرة محرمة أطلقتها في شاشة ملونة، ستنطق عينك بها، كم من خطوة مشيتها في معصية الله ستنطق رجلك بها،
كم أشياء أخذتها وقبضتها بيدك، وأنت تعلم أنها ليست لك، ستنطق بها يدك. كم من اتفاقيات ومعاهدات، وقعتها أيدٍ ظالمة وهي تعلم أنها تخالف مراد الله عز وجل، ستشهد على أصحابها هناك.
كم من ريالات دخلت بطون أناس، ظلماً وعدواناً، جوراً واحتيالاً، ستنطق أعضائهم بها.
كم من مقالات تستهزئ بدين الله وأتباعه المطبقين له ستشهد عليها يد من كتبها ..
وبعد هذه السلسلة من الشهود، التي لا مفر للعبد منها، لا يملك العصاة أمام هذه الشهادات المتوالية، إلا أن يشهدوا هم على أنفسهم.
وهذا هو الشاهد السادس من شهود يوم القيامة وهو شهادة الإنسان على نفسه.
قال الله تعالى: يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ وَٱلإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَـٰتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـٰفِرِينَ [الأنعام:130]،
ويقول عز وجل في آية أخرى: حَتَّىٰ إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـٰفِرِينَ [الأعراف:37].
فهل هناك ذلة وخزي بعد هذا، أن يشهد الإنسان على نفسه، لماذا يوصل الإنسان نفسه إلى هذا الحد، وهو بإمكانه، ألا يوقع نفسه،في مواقع الهلكة. ومن أبى إلا الخَطا والسيئات فليعد لهؤلاء الشهود جوابا ولاإخاله يفلح فالله عز وجل قد ختم على فيه فلم يعد قادرا على النقاش والجدال
فهو تحت حكم العدل الحق المبين وبشهادة من قارف الخطايا من الأعضاء وحسبك بشهادتهم في الصدق والعدالة فهل من متعظ ومعتبر
( بعد شكر الله تعالى .. أشكر فضيلة الشيخ ناصر الأحمد فلقد أفادني كثيرا في مادة هذه المقالة )
هذا الموضوع اعجبني ونقلته من الساحة المفتوحة وهو للكاتب بلال الفارس
الموضوع الاصلي
من روعة الكون