كيف ترخص لديك الدنيا ؟
هذه الهالة الكبيرة التي قلبت الموازين لدى القاصي والداني من الناس ؛ حتى أضحت شغلهم الشاغل الذي لا يستطيعون الفكاك منه صباح مساء ، أو العيش بعيداً عن أجوائه في أخص أوقات حياتهم ، أو صياغة مختلف علاقاتهم في منأىً عن خطوطه العريضة التي تأصلت في قلب الصغير منهم قبل الكبير ، وذلك لأنها قد ألقت بظلالها على جميع مناحي حياتهم ، فلم يعودوا يفكروا إلا فيها ، أو يبصروا إلا من خلالها ، بعدما هيمنت على وجدانهم ، وتحكمت في جميع عواطفهم وأحاسيسهم !!
إنها الدنيا . . صاحبة الباع الكبير _ الذي لا يباريها فيه أحد على وجه هذه البسيطة _ في الإيقاع بفرائسها على اختلاف أشكالهم وألوانهم وطبائعهم ؛ إذ تلقي لهم الطعم متمثلاً في أمانيها العريضة ؛ فلا يلبثوا يسيراً حتى يلتقموه بشغفٍ وولهٍ ؛ فيتأصل حبها في قلوبهم إلى المدى الذي يفوق معنى الالتصاق ؛ بل قد يصل في كثير من الأحيان إلى حد العبودية الخالصة التي لا تعرف معنى النفاق !!
لذا تجد أن الفطن هو الذي يتأمل ملياً في عواقب الأمور ؛ ليرى بمنظار البصيرة ما يعجز عن رؤيته كثير من أهل الهلاك والثبور ، الذين يندفعون ملء قوتهم ووسع طاقتهم لولوج ساحة الآثام والفجور ، ثم ما يلبثوا يسيراً حتى تطويهم ظلمة القبور ، دون أن يمنحوا أنفسهم أدنى فرصة للتروي قبل دمارهم ، إذ خالطت الدنيا شغاف قلوبهم فأضحوا يهيمون بها ملء صدورهم ، أما من أبصر الحقائق ، وأمعن النظر في العواقب ، يجد أنها صفقةٌ خاسرةٌ تلك التي جعلته ينافس الكلابَ والخنازيرَ خلال فترة عمره المحدودة على عظمةٍ باليةٍ ، وجيفةٍ مُنتنةٍ ؛ حتى نهشوا منه اللحم ، ومزقوا منه العرض ؛ وأضحت رحى الشحناء والبغضاء ، تضرب فيهم بأطنابها وتجرف الجميع في دورانها ، حتى أشعلت منهم القلوب ، وأوغرت منهم الصدور ، فصار عيشهم كدر ، ونفعهم ضرر ، وما لبثوا أن تخطفتهم يد المنية في لحظة غرر ؛ فلا الدنيا أدركوا ، ولا الآخرة أبقوا ؛ حتى إذا ما أيقنوا بالهلاك ؛ عضوا أصابع الندم على ما فات ، فيا ليت شعري . . أين ذهبت من أصحاب العقول عقولهم ، وأين فُقدت من أصحاب البصيرة بصيرتهم ، فالعبرة تتكرر أما أعينهم صباح مساء ، ويد المنية تخطف الفقراء منهم والأغنياء ووحشة القبر تفتتن في ظلماتها الصالحين والأشقياء ، فمتى تزول عن العيون غشاوتها ؟ ومتى تستيقظ القلوب من غفوتها ؟ فالخطب عظيم والأمر جلل ، واللحظات تمضى دون توقف لتنقص آجالنا ، وتختلس أعمارنا ، في حين لا نجني من دنيانا سوى السراب ، ثم نفارقها راغمين إلى التراب لتبدأ رحلتنا مع الحساب ، ولا ندري بعدها أنحظى بالعفو أم العقاب ، فأوقفوا هذا السيل من استنزاف الأعمار ، واجعلوا من العواقب معياراً للاعتبار وألينوا قلوبكم بالتضرع بين يدي ربكم في دجى الأسحار ، واعلموا أن تمكّن الدنيا من القلوب لا يودي إلا إلى كل خزيٍ وذلٍ وعارٍ ، فارتقوا بالنفوس إلى رحاب الملك القدوس ، ولا تدنسوها بمزيد من تدني النفوس فإذا ما استشعرتم عزَّ الطاعةِ وذلَّ المعصية . . .
فسوفَ ترخص لديكم الدنيا
الموضوع الاصلي
من روعة الكون