1- ضع ما تفكر به جانباً .. و تذكر ان تعود لـ أخذه مرة ً أخرى .
2- أقراء بقلبك.. أو أجعله يقراء من خلالك.
3- لا تفرط في عقلك أبداً .. !!
ذهب مع الريح
نادر .. طفل يبلغ من العمر 11 عام
مفقود منذ ما يقارب 14 عاماً..
و البحث عنه غير جاري ..
على من يجده ..
ان لا يخبرأحداً عن مكان وجوده ..
أو بصيغه أخرى :
على من يجده ..
أن يخبره بأنه سوف يقوم بالابلاغ عن مكان وجوده .. ليتمكن من الفرار بـ جلده و مبادئه .. !!
قابلته في أحد شوارع العقل المضيئه ليلاً .. و نهاراً ..
و تحديداً .. على ناصية شارع الذكريات المزدحم بالماره ..
لم أستطع ملاحظة وجوده بسهوله ..
فـقد كان الشارع يضج بالأصوات المزعجه ..
و الرؤيه شبه معدومه بسبب الدخان المتطاير من عوادم احدى الشاحنات السيئة الصنع
(اللتي توقعت منذ الوهله الاولى ان من يقودها هو بلا شك سائق سيء التربيه )
اما هو
فقد أحسست بوجوده هنا ..
لذلك فضلت ان الجأ الى طريقة المسح الضوئي لرؤيته ..
فـ أخذت أمسح بـ قلبي كل شبر في هذا الشارع ..
اي ما يعادل 20 سنه مربعه .. ( هكذا تقاس المساحات ) ..
و بينما انا اتجول بقلبي بحثاً عنه .. يدفعني الى الاحساس بوجوده ذلك الشعور المر ..
قاطعني .. عندما قال : أنا هنا .. !!
رأيته امامي و أيقنت بأنه هو رغم اني لم آره من قبل الا في بعض الصور القديمه
الموجوده في خزانة جدته و لكنه قد تغير كثيراً .. !!
تقدم الي و صافحني .. و تراجعت عنه و تصفحته ..
حاول ان يعرفني بنفسه .. فـ رفضت ان يقوم بتعريف نفسه امامي ..
لاني اعرفه .. والمعروف يزداد غموضاً عندما يعرف ..
انا لم أره من قبل و لكنني رأيت أباه و عمومته و أخوته ..
و قد كانوا سلسله متناسقه من الرجال الأفذاذ ..
كل رجل يمثل حلقه .. و كل 10 يمثلون سلسله .. و لكني لاحظت ان هناك حلقه مفقوده في هذه السلسله ..
فـ أيقنت بأنه هو هذه الحلقه ( الضائعه ) ..
أشرت الى أحدى المقاهي القابعه في الزاويه المقابله .. و دعوته لـ شرب كوب من شاي المر ..
على الطريقه العربيه الاصيله الخاليه من ( السكر ) ..
اجاب بالموافقه .. و توجهنا سوياً الى هناك ..
قمنا بالدخول الى المقهى ..
و أتجهنا الى احدى الطاولات النائيه ..
اللتي كنا نستحق هدوءها ..
و تستحق هي سماع قصتنا ..
هناك ..
في الركن البعيد ( المشتعل ) .. بـ نار الفضول و الأسئله ..
طلبت لي كوب من الشاي ..
( لعله يلاحظ أنني أتقنت شرب الشاي على الطريقه الأنجليزيه الفاخره .. اللتي فشل في أتقانها مسبقاً )
و في نفس الوقت ..
طلبت له كوبً من الماء العذب كـ عذوبة قلبه و صفاء روحه ..
فـ لعل صفاء الماء و الروح و صدق اللسان و القلب يختلطان عند الشرب .. و ينفجر نتيجة ً لذلك ..
نبع من الاحاديث اللتي كنت أبحث عنها ..
و اللتي قد تطفيء نار فضولي و أسئلتي ..
و لكنه كما عهدته و اعتدت عليه ذكي في تعامله ..
رغم أنني الأن أفوقه بـ مراحل الا انه أستطاع ان يدير الحوار كما يشاء ..
فقد كان يقاطع حديثي بأخذ رشفة من كوب الماء ..
لم أستغرب ذلك التصرف منه ..
فـقد كان يعلم بأن حديثي كـ التيار الكهربائي .. يموت عند القطع ..
و تلك صفة مشتركه فيما بيننا ..
لذلك انا مكشوف أمامه و لا أملك سوى الأنتظار ..
أنتظرت .. بكل حراره
بينما يحاول هو افراغ محتوى الكوب في جوفه .. بكل برود ..
عندها .. دار بيننا حديث لا يخضع لقواعد النحو و الصرف ..
و لا يمت الى لغتنا العربيه الأم بـ صله ..
أسترسل في سكوته .. و أسترسلت أعصابي في الأحتراق الهادي الباعث للدفء ..
أبتسم في وجهي ..
و داخل بين أصابع كفيه .. فـ تداخلت الحنطة ًبالحنطة ..
و سال من عينيه الهادئتين ذات اللون الأسود الداكن دمع ً زادهما لمعاناً ..
أغرق ثوبه الرث ( حتى ظننت بان القمح سوف يُحصد فيه عما قريب ) ..
عندها ..
قرأت في عيناه تلك ما لم أقراه في أمهات الكتب العربيه و لا جداتها ..
و أشبعت فضولي بتلك القصه العالقه في محاجر عينيه ..
كما هي عالقه في ذهني الأن ..
و منها أيقنت ..
أن آمال الرجال انما هي صياغه حديثه لـ ألام الأطفال .. !!
هنا ..
وقف عن كرسيه ..
و حاول ان يتدارك أمر دموعه اللتي أنسكبت أمامي بدون سبب مقنع ..
بكل لباقه ارجع كرسيه الى مكانه السابق تحت طرف الطاوله ..
و أستأذن بالرحيل .. و رحل ..
و لكنه توقف على بعد خطوات من الطاوله ..
و عاد مرة أخرى ..
فـ ظننت بانه قد نسي شيئاً من أحزانه عليها ..
و لكنه مد يده و أخذ كوب الماء الفارغ و قلبه رأس على عقب ..
و أكمل طريقه متوجهاً نحو باب الخروج من المقهى ..
و أكملت انا طريقي أتمعن هذا الكوب ( المقلوب ) على أمره ..
متوجهاً نحو باب الخروج من هذا العالم اللذي أبكى نادر ..!!
بعض مما قرأته في عينيه
( هو )
ضمير منفصل عن كل ما هو حوله من الضمائر المتشاب بـ بسوادها و ضياع مبادئها
ضميرصادق .. شعرت من تصرفاته و بكاءه امامي بأنه لم يستتر في يوم من الايام .. و لن يفعل هذا ابداً
ضمير حي .. لا يأبه بالموت .. و لا بـ الضمائر المتكلمه من حوله ..
يرى بان ضمير المتكلم .. ثرثار يتحدث دائماً عن ما لا يعلم
أو أحمق يتحدث عن ألام الأخرين بكل سهوله لانه لم يتذوق طعمها
أو غبي يتفاخر بأمجاد أجداده اللذين عاشوا في العصور المظلمه .. لانه لم يحقق شيء .. !!
و يرى بأن ضمير المخاطب .. ساذج .. مهزوز الشخصيه ..
يتلقى اوامره من ضمير المتكلم .. لذلك هو ضعيف لا يملك اي قرار ذاتي في حياته
و يعتقد ان الضمير المستتر .. ضمير جبان لا يستحق المواج .. لذلك لم يتحدث عنه اطلاقاً .. !!
و ان الضمير المتصل .. ضمير دنيء لا يملك عفه و لا شرف .. لذلك يتصل مع غيره ليحقق لنفسه المكانه ( الوضيعه )
في المجتمعات ( الفاضله ) .. !!
أستنتجت مما سبق من حديثه الصامت ..
أنه ضمير ( حر ) .. طليق .. لا يرتبط بمكان ..
فضاءه كان حلمه العظيم الواسع .. و قائده الاعلى في هذا الفضاء هو عقله ..
لذلك فقد كان جندياً مطيع .. حسن السيرة و السلوك ..
و انه ضمير ( شهم )
لم يهتم أبداً في البحث عن مكان مميز في الجمله ..
بقدر أهتمامه الدائماً على ان تخرج الجمله للنور بـ صوره بيضاء و معنى سليم و فائده عظيمه ..
حتى و ان لم يكن هو فيها ..
بأختصار .. ان كان ضمير له ضمير .. !!
يتقن الصمت بشكل ً عجيب .. و لكن عيناه لا تتقنه أبداً ..
فـ حدثتني عنه .. و عن عائلته ..
ولد لـ أب و أم كريمين ..
و في مجتمع شرقي جداً .. لا يقبل بـ غير الجفاف ..
عاش مع اخوته و والديه ..
كان محل أهتمام الجميع من أقاربه لما لمسوا فيه من علامات تشير الى ظهور شخصيه جديده ..
لم يتم التعامل مع مثلها من قبل ضمن نطاق العائله او القبيله او المجتمع او .. او .. او ..
فالكل يراقب تحركاته ..
يدرس تصرفاته ..
أتفق الجميع على أنه شخصيه متمرده و صعبة مراس ..
و فعلاً فقد اصابوا في ذلك ..
فقد كان عصبي جداً .. حاد المزاج .. جريء .. عنيد .. معتد بنفسه و بتفكيره .. و متهور جداً .
و كانت كل تلك الصفات كفيله بأن يفكر اقاربه في ايجاد طريقه تساعده على تشكيل شخصيته بشكل أخر .
فـ كان المنفى ..
في يوم من الايام انتقل للعيش وحيداً مع جدته في أحدى القرى الغارقه في عمق صحراء نجد ..
لم يتبرم تجاه هذه النقله في حياته .. لانه كما ذكرت سابقاً معتد بنفسه و صلب ..
خلع عن جسمه ملبوسات ( Nike ) الفاخره .. و ركن دراجته في احدى غرف البيت الفارغه ..
و غادر متوجهاً الى الصحراء ..
هناك .. كان كل شيء ً شرس ..
الطقس .. و البيئه .. و التضاريس .. و المجتمع .. و حتى جدته صاحبة المنزل كانت شرسه
و لكنه كان صلب .. تعلم هناك مالا يمكن ان يتعلمه في اي مكان بالدنيا ..
صفاء النفوس و الصدق و المبداء و قوة التحمل و الذكاء الفطري المكتسب من يوميات الفرد في حياته ..
هناك .. ايقن بأن لكل شيء لون واحد .. و لا مجال لتعدد الالوان و الزوايا ..
كل شيء يؤخذ باقتدار .. و لا يأخذه سوى من يستحقه .. لا يقبل الرجال بالضعف بين الاقوياء ..
و لا بالانكسار .. و لا مجال للشكوى و الامتعاض ..
و قد ذكرت لي عيناه بعضاً مما قد علق في فكر هذا الطفل فلم يخرجه منه أطلاقاً .. و منها :
أن بأستطاعة رجل واحد ان يفعل المستحيل ..
و أن كل الامور العظيمه تبدأ برجل واحد ..
و أن شخصيتك هي ما عودت الناس عليه لا ما تحاول ان يرسمه الناس لك ..
و الأهم من كل ذالك أن لا تضعف امام الناس مره .. فـ تكون ضعيف كل مره
في الجانب الاخر كان اخوته قد كبروا و اصبحوا رجال لهم شخصياتهم المستقله ..
و لكنهم عاشوا في ظروف غير الظروف اللتي عاش هو فيها ..
و مع مرور الوقت .. انهى مرحله من مراحل تعليمه .. حان موعد عودته الى المجتمع اللذي خرج منه ..
و عاد و لكنه لم يكن هو ..
و لم يكن هو نفس المجتمع ..
فكان كلاهما .. لا يتقبل صفات الآخر .. !!
الى حين كتابة هذا الموضوع
لا زال
نادر
يقاتل من أجل أن لا يخسر مبادئه و شخصيته الأصيله ( الصحيحه ) .. من أجل الأندماج في مجتمع ( خاطيء ) .. !!
سقط عمداً
بعد أن غادر نادر المقهى ..
مكثت بعده عدة دقائق معدوده .. الى انني احسست بشوق كبير يدفعني للبحث عنه مرة أخرى ..
فـ وقفت عن الكرسي ..
و اعدته الى مكانه الطبيعي تحت طرف الطاوله الخشبيه ..
و شرعت بالخروج ..
الا أنني توقفت على بعد خطوات من الطاوله ..
و عدت مره أخرى ..
و انا متأكد بأنني لم أنسى شيئاً من أحزاني عليها ..
و لكنني مددت يدي الى نفس الكوب ( المقلوب ) بسبب نادر ..
و اعدته الى وضعه الطبيعي ..
و لكنني لم أجد أي أثر لـ بلل ماء على سفرة الطعام الممدوده فوق الطاوله ..
و لا حتى قطرة واحده ..
عندها تذكرت دموع نادر ..
و أيقنت أنه أراد ان يخبرني بأن عدم خروج الماء من الكوب هو دليل على فراغه من الماء ..
و أيضاً ..
أن عدم بكاء الأنسان .. دليل على فراغه من الأحاسيس .. !!
نادر
شكراً على هذا اللقاء العابر
الموضوع الاصلي
من روعة الكون