راحت تتـــأمل الأرض وهي تطوى تحت عجلات السيارة المسرعة
تارةً، وتتأمل الأشجار وهي تمرق أيضاً هي وأية علامات على
الطريق، تـذكرت كم كانت تسعد لهـذا المشهد وهي طفلة، إذ إنه
يقربها من ديار الأحباب هي الآن تتأمله بحزن وشجن، إنه يشبه
العمر يمضي هو الآخر سريعاً تطوى أيامه كما تطوى هـذه الطريق، وتمر
أفراحه وأتراحه كما تمر هـذه الأشجار ويقربنا أيضا من الديار فلعلها أن تكون
ديار الأحباب.
تنهدت (( سلمى )) وتمتمت ( لعلها تكون ديار الأحباب ) سمع
همسها رفيق دربها وابن عمها ( زوجها أسامة ) فسألها بهدوئه
المعهود: أتقولين شيئاً؟
ردت عليه سائلة: كم سنة مرت لم نزر خلالها بيت عمنا؟ رد قائلا:
واحد أو اثنان وعشرون سنة تقريباً. قالت: يالها من مدة طويلة.
تظن لم انقطعنا كل هـذه الفترة عن المجيء لزيارة عمنا؟ أولا تكون
تلك قطعية رحم؟ لم أظن يوماً أن أقع في هـذا الإثم- رد عليها
مطمئناً: إن أبناء عمي كانوا غالباً يحضرون إلى بلدتنا كل عيد،
علاوة على الحضور في المناسبات والمواسم المختلفة فكل أقاربهم
موجودون في بلدتنا .
وكان ذلك تواصلاً فعليا إذا لم يكن يتخلف منهم أحد، إلا عندما كبرت
أمهم في السن، وما إن علمنا حتى عزمنا على زيارتها، فلا قطيعة
إن شاء الله ونعوذ بالله من شر القطيعة.
ردت: نعم نعم إنها كانت أيضاً سيدة فاضلة واصلة للرحم. ورجعت
تتأمل الطريق مرة أخرى وطي الأرض يثير شجنها فشعرت ببعض
الدوار فأسندت رأسها للخلف وأغمضت عينيها تريحهما بعض
الوقت، وتـذكرت هـذه السيدة كم كانت شابة مرحة تفيض حيوية و
نشاطاً يحبها جميع الأهل ويؤم بيتها الجميع خاصة الفتيات فهي
على لطفها وحلو حديثها كانت دائماً توجن وتعلمهن أشياء كثيرة
في بساطة ويسر. فلا يكاد يخرج أحد من بيتها إلا تعلم شيئاً أو
اكتسب مهارة. ظلت كـذلك إلى أن نقل عمها إلى تلك المدينة و
اقتصرت الصلة على زيارات متباعدة ومقتضبة.
ها هي بعد مرور السنين والأعوام تـذهب لزيارتها تدق الباب فتحتح
لها حفيدتها التي تشبه جدتها كثيراً وتستقبلهم بنفس البشاشة وحلو
الحديث ثم تأخـذهم إلى حيث تكون جدتها حجرة صغيرة باردة، كل
شيء فيها موضوع في مكان كأنما وضع عشرات الأعوام لم
يتحرك والسيدة المسنة تجلس على مقعد، عابس وجا. تطرق في
حزن، ولا تهتم بمن فتح باب غرفتها، ولا يكاد يسمع ردها على
السلام، تناديها الفتاة: جدتي سلمى جاءت تزورك يا جدتي. ترفع
السيدة بصرها فتمد سلمى يدها لتصافحها، تمد السيدة يدها في
استثقال وتشعر سلمى ببرودة كفها وتضع كفها الاخرى فوقها في
شفقة، فتنتزع العجوز يدها من بين كفي سلمى بفزع، تفزع سلمى
هي الاخرى لكن صوت زوجها يناديها: سلمى اسيقظي لقد وصلنا.
أجابتة بسرعة: حمداً لله على السلامة أهـذا هو بيت عمي؟ أشار بيده
الى باب البيت قائلاً: نعم اسبقيني إلى الدرج.
صعدت سلمى وطرقت الباب ولم تفتح الحفيدة الشابة بل فتحت لها
زوجة عمها يعلو وجا البشر والحبور وكانت كما هي لم يتغير
فيها شيء إلا شعرات بيضاء أطلت من تحت خمارها أضفت عليها
وقاراً وجلالاً، وضمت سلمى في حنان ومودة وأمطرتها قبلاً، و
دخلا معاً إلى غرفة واسعة، كانت أشعة الشمس تغمرها من نافـذة
واسعة، وكل شيء في الحجرة ينبض بالحياة والنباتات الخضراء
في كل الأركان .
كانت جلسة رائعة سألتهم خلالها عن فرد من أفراد العائلة لم تنس
صغيراً ولا وليداً، وتشبثت بهم أن يبقوا للغداء إلا أنهم تمكنوا من
الإعـذار بلباقة فالطريق طويلة ويودون قطعها بالنهار. سلكوا نفس
الطريق غير أن سلمى تأملتها هـذه المرة بلا حزن ولا شجن فقد
رأت الطريق كأنه العمر وقد زانه جميل العمل فصار مضاءاً
بعلامات، وقطعه محتم، فلابد من زاد، وقد أثلج صدرها رؤية تلك
السيدة الفاضلة لم تزل في نظرها شابة بطيب نفسها وحسن معاملتها
وفوق كل ذلك صلة رحمها فكأن قاطع المفازات وسالك الدروب قد
يظل بنفس قوته من أول الطريق إلى نهايتها إذا أحسن وضع
العلامات.
الموضوع الاصلي
من روعة الكون