نهاية سريعة لحلم طويل
جفل الحلم من التدوين، ربما لأنه لا يرغب في أن يكتب، أو يُطلب عند الحاجة، فلا تنتظره، سيأتي كما يأتي الحب بلا استئذان، سيأتي شفافا لتعرف أنك نائم لا ميت، وقد يأخذ بيدك كي تمشي معه في جولة تتفقد فيها آثار نفسك المنسية على أرض بعيدة، تقول: أنا هو وهو الظل .. وتركض في ذكراك ...
محمود درويش
في حضرة الغياب
نهاية سريعة لحلم طويل
لشهر نيسان مذاق خاص: بقايا من برد الشتاء، حفاوة الدفء، خروج الخبايا من سباتها الشتوي، تساقط زهر اللوز، تفتح النوار، رائحة الندى، شقائق النعمان وزهر الأقحوان تتناثر بخيلاء وعشوائية فوق بساط من عشب ... ولنيسان حشد من الذكريات الحلوة والمرة ما زالت تزخر بها ذاكرته ويرفض أن ينفضها بل يجترها كل عام .. خيبات وقصص وأحداث أليمة .. أناسٌ رحلوا، فتياتٍ أحبهنْ أيام الصبا .. صداقات إعتزَّ بها .. ما يربط ذاكرته بهذا الشهر صورة بعيدة لفتاة لا يعرفها ولا يتذكر وجا تماما كل ما يتذكره عنها أنها كانت على الأكثر في سنتها الدراسية الأخيرة وكانت تحمل وردة جورية كل صباح لونها أحمر وأحيانا أبيض بينما ينسدل شعرها الكستنائي على كتفيها، كانت تمشي بحبور وهي تبتسم للدنيا، لم تكن تتطلع إلى أحد من الشباب، وربما كانت ، ألله أعلم ..
عتمة خفيفة تلف المكان والشمس تتهيأ للبزوغ، هدوء طاغي يعم أرجاء البيت وقد كسرته ساعة المنبه حين دقت الخامسة والنصف صباحا، في هذا الوقت المبكر استيقظ أكرم وهرع للساعة ليسكتها، مط يديه وراء رأسه في كسل ثم دلف للصالون وفتح ستائر النافذة المطلة على الجهة الشرقية، وقف يتأمل العالم وهو يتهيأ لاستقبال يوم جديد، كان لون الأفق ضاربا لحمرةٍ قرمزية ثم أخذ يشوبه بعض الصفار المائل للبرتقالي وقد بدأت معالم المكان تتضح شيئاً فشيئاً، لا شيء بمقدوره آنذاك أن يوقف قرص الشمس فقد تبددت الغيوم وبدت السماء بزرقتها صافية نقية، زقزقة العصافير كانت أول الأصوات التي سمعها آتيةً من صوب سور الحديقة الذي تعربشت عليه ياسمينة عراقية عتيقة بدأت تفيح بعطرها وتحمّل نسمات الصباح شذاها، فتنّشق منها وملأ رئتيه، سرت في بدنة قشعريره خفيفة عذبة، ثم توجه للمطبخ وملأ إبريق القهوة بالماء وخلافا لكل مرة لم يفتح التلفزيون على نشرة أخبار الصباح وقرر أن يبدأ نهاره بالتفاؤل فأدار قرص المذياع على " أنغام " الإذاعة المحلية التي تبث أغاني فيروز كل صباح كانت تغني " ليلية بترجع يا ليل "، حمل فنجان القهوة وتقدم نحو زوجته وأيقظها، أبدت منال دهشتها فهذه أول مرة يفعلها ويقدم لها القهوة وهي ما زالت في الفراش فسألته :
- ما بك هل هنالك شي؟ خير إن شاء الله !!
- صباح الخير حبيبتي
إزدادت دهشتها ولكنه تركها وتوجه للأولاد لإيقاظهم وما هي إلا دقائق وإذ بالحياة تدب بالبيت، حَمل الصغير من فراشه الدافيء وتوجه به للحمام وغسل له وج ثم أقنعه بصعوبة بشرب كاس الحليب، في هذه الأثناء كانت بناته الثلاثة قد إنهمكن بتحضير أنفسهن، فلبست آمال وأماني المريول الأخضر في حين ارتدت رغد المريول الأزرق فوق بلطلون الجينز مع شبرة بيضاء وجوارب قصيرة كما هو شأن طالبات المرحلة الإبتدائية، تناول الجميع وجبة إفطار خفيفة وبالكاد استطاعوا إنهاء كاسة الشاي حتى لا يتأخروا عن المدرسة، ولم ينسوا أن يقبلوا أبويهم قبل الخروج، وبالطبع استلام مصروفهم اليومي.
عاد الهدوء للبيت مرة أخرى، توجه للحمام وفتح صنبور الماء الساخن وترك الماء يتدفق على جسمه وقد أغمض عينيه باستسلام وكأنه يزيل به مخاوفه وهمومه، حلق لحيته ووضع على شعره ما يثبته قبل أن يسرحه، وبينما كان يرتدي ملابسه ويرش فوقها عطرا فرنسيا من النوع المُقلد، قالت زوجته بنبرة هجومية:
- لم كل هذه الأناقة ؟ ولمن هذا العطر ؟؟
- أنت تعلمين أن اليوم هو موعدي مع البنك .. هل نسيت !!
- طبعا لم أنسى، ولكن بمجرد أن تستلم النقود تعود فورا للبيت.
- طبعا، طبعاً .
- سأكون بانتظارك ،، على أحر من الجمر ..
- إنشاء الله ، بس إنت إدعيلي.
عندما خرج من البيت كان يشعر بنشاط غير عادي وأنه ممتليء بالتفاؤل والإقبال على الحياة وشهيته مفتوحة على كل شيء، كان عليه أن يمشي عشر دقائق قبل أن يصل إلى ساحة البلدة حيث تصطف الباصات والسيارات والباعة وكلٌ ينتظر توافد العمال والطلبة وربات البيوت، وبمجرد أن يمتلأ أي باص بالركاب ينطلق ويأتي التالي وهكذا اعتادت الباصات والسيارات أن توزع أهل البلدة كل يوم في شتى الاتجاهات ثم تعيدهم آخر النهار.
" دير الحمام " قرية فلسطينية عادية تقع على بعد 38 كلم من رام الله ومثلها تقريبا عن نابلس، تكدست بيوتها على قمة الجبل على نحو متلاصق وعشوائي، تكثر فيها أشجار السرو والزيتون واللوز، وتمتد بيوتها متناثرة حتى تصل إلى السهل، من بعيد تبدو القرية ببيوتها الطينية العتيقة وسط غابة من الأشجار منسجمة تماما مع بيئتها كما لو أنها لوحة زيتية مليئة بالألوان والتفاصيل المدهشة، على عكس المستوطنات ذات البيوت المرتبة التي تغلف سقوفها ألواح من القرميد الأحمر وتحيطها أكوام من الطمم والتراب المجروف العاري فتبدو عدائية مع محيطها.
كان أكرم ثالث من يستقل الحافلة الصفراء ذات السبعة ركاب، الأول جلس بجانب السائق والثاني خلفه تماما فيما توجه هو للمقعد الخلفي حيث باستطاعته أن يمد رجليه الطويلتين وأن يغرق في أفكاره دون إزعاج، دقائق قليلة مضت قبل أن يصعد آخر راكبين: طالبتان من جامعة بير زيت جلستا إلى جواره إحداهن كان يفوح منها شذى عطر نسائي مثير، أدار السائق المحرك وانطلق .
كانت أمسية رائعة بحق ضمت العائلة بأفرادها الستة بالإضافة إلى حماته التي لم تشأ أن تفوّت الفرصة، كان الجميع يضحك من القلب وكأنهم ينتظرون مولودا جديدا، أماني طلبت كمبيوتر مع مجموعات أقراص مدمجة، وآمال قالت أريد فستانا وجينزا وعلبة شوكولاته كبيرة، أمجد طلب أن يصحبه إلى محل الألعاب ليختار ما يريد على مزاجه، أما رغد فطلبت أن يشتري سيارة حقيقية ليوصلها للمدرسة كل يوم، وعندما قال لها أريد أن أسمع طلبك الخاص أجابت أريد هدية على ذوقك يا بابا، أما منال فكان يعرف أن لا شيء يرضيها أكثر من الذهب فلم يسألها بل قال لها أما أنتِ يا زوجتي العزيزة فعندي لك مفاجأة ستسعدك، تنحْنَحَتْ حماته وقالت بصوت حازم أقرب إلى الإرشاد: لا تنسى يا صهري العزيز أنك ستأخذ القرض بهدف شراء الشقة لتضمن مستقبل أبنائك فلا تبدأ ببعثرة أموالك هنا وهناك ...
سُميت دير الحمام لكثرة من يشتغل بها بتربية الحمام، كان يؤمها الكثيرون ممن يشتهون أكل الزغاليل الطرية وكانت تضم أشهر أنواع الطيور وأندرها وكانت مهنة مربحة وسهلة، بعض الأنواع بيعت بمبالغ خيالية، اليوم لم يعد أحد يهتم بهذه الهواية، القرية نفسها تغيرت، طار الحمام وبقي الإسم، الناس اليوم في القرية مشغولون بلقمة العيش وأمور كثيرة أخرى ليست كلها مهمة لكنها تستغرق كل وقتهم على أية حال.
امتعض قليلا عندما عرف أن حظه اليوم مع بشير فهو سائق عصبي ومشعوط وكثير الكلام ولا يتورع عن استعمال كلمات نابية، ولكنه يعرف كل الطرق الالتفافية وسبل التهرب من الحواجز والتحايل عليها ويجيد العبرية بطلاقة، على أية حال هي ساعة أو أكثر قليلا ستمضي بطريقة ما، قبل الانتفاضة كانت الطريق تستغرق نصف ساعة على أكثر تقدير أما اليوم تضطر السيارات أن تسلك طرقاً ما كانت تخطر على بال الشيطان من قبل، ثلاثة حواجز ثابتة وأخرى " طيارة " حسب الوضع الأمني ومزاج الجنود، بعض الأحيان كانت تستغرق طريق الوصول أربعة ساعات كاملة من الذل والبهدلة، ألقى بنظرة خاطفة على القرية من النافذة الجانبية كما لو أنه سيودعها، فرأى الشمس وهي تغسل بأشعتها البيوت وتطرد من جدرانها برودة الشتاء، عشرات البيوت متناثرة هنا وهناك وفي كل بيت قصة وأمسيات حزينة وقلقٌ وانتظار، فجأة على صوت المذياع على أغنية لعبد الحليم " نبتدي منين الحكاية " أيقظت من ذاكرته مشاهد غامضة بعيدة وأعادته دفعة واحدة لحقبة السبعينات .. ألله ما أجمل تلك الأيام يكاد يحس بها ويشتم رائحة المكان ويسمع أصوات الناس، هل صحيح أن لكل ذكرى مذاق ورائحة وغالبا ما ترتبط بحدث معين أو بأغنية ؟؟.
غداً يوم آخر ليس ككل الأيام، هكذا أجمعت العائلة بينما هم على مائدة العشاء، استأذن أكرم قبل أن ينهي طعامه وتوجه للصالون لإجراء بعض المكالمات الهاتفية .
- قالت الأم: إنتبهي يا بنتي لئلا يضيّع زوجك الفلوس على الأشياء التافهة.
- إطمئني يا أمي، فقد رتبنا كل شيء واتفقنا كيف سنصرف كل قرش.
- يعني لن تشتروا لنا الأشياء التي وعدتمونا بها ؟! قالت أماني بصوت حزين.
- ألايكفي أننا منذ سنين طويلة ونحن نعيش بالحرمان بسبب تقشفكم هذا ! قالت آمال بصوت أقرب للعتاب.
مضت ساعات طويلة وأكرم يتقلب على جنبيه وقد طار النوم من جفونه، أفكار عديدة تتقاذفه وأحلام عريضة تراوده طالما عاشها سابقاً بيقظته واستمتع بتفاصيلها كما لو أنها حقيقة، أما الآن فهو عاجز عن ترتيب حلم واحد !! أما مخاوفه فقد كانت تندفع كمصارع ضخم لا يريد أحداً سواه على الحلبة، أحلام اليقظة تسبب الزهايمر في الكبر ( هكذا يدعي بعض الأطباء ) ولكنها عادة اكتسبها في السجن الانفرادي عندما كان يمضي أيام وليالي بلا رفيق بين جدران كالحة، كانت تؤنس وحشته وتسافر به إلى أقاصي الأرض تخترق الأسوار بكل سهولة، من منا لم يحلم بيقظته بكل ما هو جميل ومستحيل !! الحلم هو اختراع المحرومين وتحايل الفقراء على البرد ..
- على مهلك شوية يا بشير ، رح تعمل حادث هيك.
- لو سمحتوا: كل واحد بحاله، أنا صارلي ثلاثين سنة عالخط وعمري ما عملت حادث !! وفي ميت حاجز عالطريق، والا بدكم توصلوا المغرب ؟
- بس الطريق وعرة وفي مستوطنين بيرموا حجارة عالسيارات العربية .
- إذا حجارة بسيطة بس ما يكون رصاص ...
- الله يستر.
" أكرم هلال المندلاوي " شاب في أواخر الثلاثينات، طويل وله كرش خفيف طالما حاول التخلص منه، أب لأربعة أطفال، جامعي، مثقف، موظف في وزراة التربية على ملاك الدرجة الأولى وينتظر ترقيته لدرجة مدير منذ سنة، أمضى من عمره خمس سنوات في السجن تركت آثارا بينة على نفسيته، قليل الكلام كثير القراءة، على محياه ابتسامة خفيفة، لا أحد يعرف من أي يستمد تفاؤله الدائم حتى في أحلك الظروف، هاديء الطباع بحيث يصعب عليك أن تتخيل شكله إذا صار عصبياً، ودود طيب محبوب، كثيرا ما يطرق رأسه ويسرح في ملكوت الله وينفصل تماما عن محيطه .. أما هو فكان يرى نفسه بصورة مغايرة كليا .. كان يرى ضعفه باستمرار، يتذكر انكساراته وخيباته، خجله وجبنه أحيانا، طيبته التي كان يعتبرها عبئاً على شخصيته، طموحه المشوب دائماً بالحذر وحساب أدق التفاصيل، كان قلبه يخفق بشدة قبل أن يبدأ بالكلام وعندما يزيد عدد المستمعين عن ثلاثة غالبا ما يتلعثم .. إذا تكلم بالقضايا العامة وشعر أن هنالك مستمعين جيدين فإنه يسهب بالشرح وينطلق الكلام منه بسلاسة وصدق وعفوية تدل على ثقافة عالية وإحساس مرهف.
جلس أبو عماد قرب السائق وقبل أن يهم بوضع حزام الأمان سأل السائق إذا كان هنالك شرطة على الطريق ؟ فأجابه لحد الآن لا ولا داعي أن تقيد نفسك بهذا الحزام من الآن، ثم فتحا حوارا على مسمع من كل الركاب، كان حديثهما عصبياً أشبه بالصراخ تكلّما عن رئيس المجلس واتهماه بالسرقة والكذب، عن أناس آخرين كانا يقذفان الكل بأبشع الأوصاف، عن الأرض التي ينوي شرائها لتوسعة مزرعته، عن مشاكل السواق مع الشرطة ومع ورش التصليح ... عندما يصمتان تسمع بقية الركاب وهم يتجاذبون أطراف الحديث وصوتهم أشبه بخلية نحل كلٌ في عالمه الخاص، الفتاتان اللتان جلستا بقربه تحدثتا بصوت خافض عن نيتهما بمغادرة الجامعة مبكراً والتوجه للسوق، كان هذا آخر ما سمعه أكرم قبل أن يغرق في أحلامه مجدداً .
أحلام أكرم تتبدل باستمرار، في أول أيام النضال كان يحلم بالشهادة ثم بأن يكون هو أمين عام اللجنة المركزية ومفكر الثورة، في السجن كان حلمه الرئيسي السفر في ربوع العالم، بعد أن حصل على وظيفه صار حلمه أن يصبح مديرا عاما للوزارة، بعد الزواج صار حلمه البيت الواسع والرزق الوفير، بعد أن احترف الكتابة ومراسلة الصحف صار حلمه النجاح والشهرة، الآن كل ما يتمناه هو السلام مع النفس وصفاء الذهن ،، وباتت قمة أحلامه هي راحة البال.
في المقعد الثاني خلف السائق جلس الحاج عطا الله عمره خمسة وتسعون عاما، أي أنه شهد أحداث قرن كامل، يا إلهي كم تزخر ذاكرته بالصور والأسماء والأحزان والأفراح ؟؟ كم من المآسي وتقلبات الزمن رأى ؟ ربما هو لا يذكر شيئا منها الآن، صحته لا بأس بها بالنسبة لشيخ تسعيني، بماذا يحلم هذا العجوز ؟ وما هي الأشياء التي ندم عليها ؟ كيف يفلسف الحياة وهو الذي عاشها أكثر من غيره ؟ ما لنا وللحاج عطا الله ! لندعه يرحل بسلام.
قبل أن يغفو أكرم وبينما هو يتنقل من هاجس إلى آخر لاحظ أن بناته قد كبرن بسرعة وأن عليه أن يغير من معاملته لهن، يا إلهي ما أسرع الأيام !! بالأمس القريب كانت أماني تتعثر في خطواتها الأولى وآمال تنطق بأول الكلمات " بابا " كانت تخرج من فمها مثل الشهد ! كيف مرت تلك الأيام دون أن يشعر بها ! دون أن يعيش تفاصيلها ! كان دوما يؤجل كل شيء، ينتظر التغيير، يرى صورة الأشياء كما ستكون بعد زمن، لم يعش الحاضر بالمعنى الحقيقي للكلمة، هل فاته القطار ؟ هل سُرقت منه أحلى أيامه ؟ حسناً غداً يومٌ آخر .. ألم نتفق على هذا ؟ فأكرم كما هو معروف عنه واقعي ولا يستسلم للفشل، مثلاً اليوم هو الحادي والعشرين على إقلاعه عن التدخين، أي نجاحه أمام ذاته، عندما يستقر في رام الله سيطور من قدراته على أفضل وجه، سيلتحق بدورة تعليم اللغة الإنجليزية، ودورة تدريب على مهارات الحاسوب .. سينتظم بأداء الصلاة .. المهم أن يغادر هذا الواقع الملعون وهذه القرية البائسة التي لا تنتج إلا الفقر والجهل والكآبة.
الساعة الآن الثامنة والنصف صباحا وقد مضى نصف ساعة على انطلاقة الباص وقد إجتازو الحاجز الأول دون عناء يذكر مقارنة بمرات سابقة، الباص الآن فوق الإسفلت بعد أن قطعوا الطرق الترابية، سرعة بشير تزداد وكذلك نزقه وعصبيته وثرثرته، الجميع غارق بصمت مريب ،، وأكرم ما زال يحلم براحة البال وعيناه شاردتان عبر النافذة، أحس بخدرٍ في قدميه وتيبس في مفاصله، تخيل نفسه في ساحة مفتوحة يكاد لا يبان لها أفق وهو يركض ويركض والعرق يتصبب من جبينه والشمس تلفح وج وكلما تعب يركن عند أول ظلٍ ثم يواصل ركضه من جديد حتى يستبد به التعب، يعاود الركض مجددا .. بدأ يشعر بخفة والهواء يداعب جبهته ويشتد ويصير ريحا فيركبه كما لو أنه سحابة .. إنه الآن يطير .. يحلق .. ينطلق في المدى المفتوح كل شيء حوله يبتعد الشجر والحقل والسياج والشارع .. لا شيء يوقفه سوى هبوط الليل .. مطبات على الطريق توقظه دون أن يميز الفارق بين الحلم والخيال .
قالت منال بعصبية برامج التلفزيون كلها سخيفة وأنا أشعر بالملل بينما أنت غاطس بين الكتب، وكلما أسئلك لماذا تقرأ وتتعب نفسك ؟ تجيب إنني أبحث عن الحقيقة ! تقرأ الفيزياء وتقول أنك تبحث عن الحقيقة ! تقرأ تاريخ الفراعنة وتقول أنك تبحث عن الحقيقة ! تقرأ ديوان المتنبي وتقول أنك تبحث عن الحقيقة ! وتقرأ لداروين والجاحظ وسقراط والشعراوي وتقول أنك تبحث عن الحقيقة ،، وتقرأ وتقرأ .. وفي الحقيقة أنك تهرب من الحقيقة .. الحقيقة الوحيدة الواضحة مثل الشمس هو أننا نسكن بالإيجار وليس لدينا سيارة وإذا مرض أحدنا لن تجد ما يغطي مصاريف المستشفى حتى لو بعت كل كتبك السخيفة، أولادنا محرومين من كل شيء ،، الحقيقة يا أستاذ أننا فقراء بل معدمين ...
مسكينة إنت يا منال ،، هكذا قال أكرم ولكن في سره وقال أيضا كلاما كثيرا لم يكن ليجرؤ على البوح به ،، قال إنها جاهلة ومملة ومتطلبة وتعجّبَ كيف لإمرأةٍ واحدة أن تجمع كل هذا القدر من الغباء والدهاء في آن ؟ ومنال هذه – وللتعريف بها – إمرأة قروية عادية شاءت لها الأقدار أن تتزوج إبن عمها وتكرس نصف حياتها في المطبخ والنصف الآخر عند الجارات، عندما تحنو تفيض بعطائها وعندما تقسو تخالها بدون قلب، حادة الطباع نزقة وأحيانا تشعر أن بها طيبة غير متوقعة، المهم أن أكرم لا يستطيع أن يتخيل حياته بدونها ربما لأنه أحبها في قرارته أو أن لها حضور وسطوة أو لأنها ربة بيت جيدة، نسيت أن أخبركم أن منال تعمل مدرّسة أي أنها مربية أجيال .
الساعة الآن التاسعة والربع وقد إجتازوا الحاجز الثاني ولكن هذه المرة بعد أن نزل جميع الركاب وتم تفتيشهم بشكل مهين حتى حقائب الفتيات تم نبشها، هنالك أنباء عن عملية تفجيرية في القدس وليس معلوم إذا كان ثمة قتلى أم لا، إذاً هذا ما يفسر سلوك الجنود العدائي وهذا ما سيزيد من عصبية بشير وإحساسه بالضيق الأمر الذي جعله يزيد من سرعته خوفا من ان يقرر الجيش إغلاق الحواجز كلها، لهذا لم يلتفت لتذمر الركاب ومطالبته إياه أن يخفف السرعة، قال أحدهم يا أخي خاف على الباص إذا لم تخف علينا !! من كثرة المطبات أحس كما لو أنني أركب بغلاً شموص !
قالت منال بحدة: إسمع يا أكرم هذه المرة الألف التي أكرر فيها كلامي، هذه الحال لن تنفع أبداً ومستحيل أن أقبل باستمرارها، عليك أن تتقدم بطلب قرض كبير من البنك وأنا سأسدد أقساطه من راتبي وما يتبقى من راتبك نصرف فيه على البيت مع قليل من التقشف نتدبر أمرنا، وبذلك نشتري لنا شقة مرتبة في رام الله بدلاً من هذه الخرابة التي تسميها منزل الأحلام !! وهناك نُدخل أولادنا مدارس خاصة ونهيئ لهم ظروف أحسن وأنت تكون قريب من عملك وبالنسبة لي سأتقدم بطلب نقل بمجرد أن نسكن هناك ...
وصل الباص بالقرب من مستوطنة " شلوميت " حيث الشارع ممهّد وواسع ومغري للسرعة، بقيت نصف ساعة أخرى ويصلوا إلى آخر حاجز وهو لا يطلب التوقف في أغلب الأحيان، أكرم يمخر عباب بحر من الأحلام وقد ترائت أمامه صور المستقبل الزاهية مختلطة بذكريات الماضي الغابر تشدها وقائع الحاضر القاسية ... أحس بثقل في رأسه وثقل في جفونه ورخاوة في أطرافه فاستسلم لنعاس خفيف وقال لا بأس في إغفائة بسيطة ريثما نصل .. بدأت تنخفض الأصوات وتبهت الألوان وتتباعد المسافات شيئا فشيئا ثم غط في النوم .. دقائق معدودة مضت، وفجأة دوى صوت انفجار العجل الأمامي، أفاق أكرم مذعوراً أحس برأسه يترنح وأصوات صرخات عالية تضج في أذنيه، الأشجار والأشياء تمر أمامه ومن جانبه كخيوط متشابكة متداخلة وبسرعة فائقة، الجبل يقترب منه أكثر فأكثر وسرعته تزداد، الدنيا بأكملها تتشقلب مَرّةً ومَرّة لم يعد يميز شيئاً.. قلبه يخفق بشدة وكأنه انتُزع من بين ضلوعه، لحظات رهيبة مخيفة مؤلمة تمضي كما البرق .. أحس بوجع فظيع يسري في كل بدنه ،، مراكز الألم تتفجر في كل مكان، رائحة الدم ولزوجته ولونه القاني ... أحس ببرودة غريبة ثم بغياب الألم دفعة واحدة، شريط من الذكريات مر في مخيلته لم يميز منه الكثير ،، تمنى لو يستطيع أن يعتذر من بناته لأنه سيخيّب أملهن، تذكر رغد التي لن يوصلها للمدرسة بسيارته لا غدا ولا بعد غد .. غابت من أمامه كل الصور ثم تلاشت تماما وأخيراً أحس بسلامٍ لم يشعر به من قبل ثم بلا شيء ...
في اليوم التالي جاء في تقرير الشرطة أن ثلاثة فقط هم من نجوا من الحادثة المروعة : الحاج عطا الله ،، إذ أن أمامه خمس سنوات أخرى ليتم القرن، السائق بشير الذي تنتظره مئات السفرات وآلاف الركاب الذين منهم من ينتظر ومنهم من سيقضي نحبه ، الثالثة هي الفتاة الجامعية وأغلب الظن أنها لم تذهب للجامعة في ذلك اليوم المشؤوم ولن تعرج على السوق مع صديقتها في يوم من الأيام.
وبنهاية القصة تنتهي أحلام أكرم ...
الموضوع الاصلي
من روعة الكون