" لابد أن أنجح هذه المرة ..لابد " قالتها (حنان) بعزم وهي تقتعد مكانا ضيقا بين الأشجار راحت تتأمل الطريق في اهتمام، وتصميم. كان الليل قد أرخى سدوله، والظلام يخيم على المكان.كان ثوبه ثقيل تملؤه نجوم السماء بثقوب كثيرة ، وضوء القمر الشاحب الحزين يفترش إسفلت الطريق في لوحة بهية من إبداع الخالق عز وجل . ومع الهدوء المحيط بها،
راحت ذاكرة (حنان) تعود إلى الوراء، وأحداث الماضي كلها تتشكل في الهواء الأسود كأنه شاشة عرض وهمية تسقط عليها أشعة وعيها. تذكرت طفولتها البئيسة بألف سوط ، والحرمان يلف حولها خيوطه اللزجة الكريهة، ووجه والدها الكالح الذي كانت تكر لقسوته كالموت ذاته ،
وانتقلت إلى مراهقتها الملتهبة والشاب الذي (أحبته) كما هي العادة دائما بجنون ،واستسلمت له رغم المراقبة الصارمة ، فكانت تختلس السويعات للقياه وداما (حبهما) سعيدا كالأحلام حتى أفاقت على ركلات الجنين في بطنها، وصفعاته التي أيقظتها إلى عالم الواقع، وبعد مواجهات ومشادات مع (الحبيب)الذي أعلن في لامبالاة أن تلك مشكلتها الخاصة وأن الآمر لا يعنيه ، حقا إنها مشكلة تتكرر كثيرا هذه السنوات، ولا تجد (حنان) أمامها حلا كالعادة سوى الانتحار، وعقد حاجبيها في حنق، وهي تتذكر كيف فشلت محاولتان سابقتان وهي الآن على موعد مع المحاولة الثالثة، ومن بين شفتيها المضمومتين تمتمت بصوت خفيض" سأنجح هذه المرة.. سأنجح"
أفاقت من خواطرها على صوت الشاحنة التي تطوي الطريق في ذلك الليل البهيم، تحفزت في مكانها واستعدت كالنمر للانقضاض، إنها في مواجهة العجلات الضخمة سينتهي كل شيء الآن بهدوء.. ستنجلي الغمة، ويغسل العار الذي يوشك أن يلطخ بياض سمعة العائلة . الآن ! وقفزت تحت العجلات مباشرة !
كلا يا رفاق لم يحدث شيء ، فقد توقفت العجلة القاتلة على بعد سنتمترات معدودة من رأس (حنان) الجميل. ترجل السائق ليرى ما هنالك، وما انفتح الباب المجاور له حتى تفاجأ ب(حنان) تصيح في وج : " لماذا توقفت أيها السائق اللعين؟ دعني...دعني أريد أن أموت."
بهت السائق للحظات، ولكن نظرة واحدة إلى بطنها المنتفخة جعلته يفهم الموقف كله ،فقال بهدوء :" إذن كنت تعزمين الانتحار؟" ولما لم يتلق ردا عاد يسأل:" لأنه لم يعد في هذه الحياة ما يغري بالعيش من أجله؟ وبعد سؤالها عن السبب قالت:" لقد فقدت أعز ما أملك ، فقدت كرامتي وشرفي ، وهاأنذا حامل ، وأنني في عذاب، ألا تكفيك هذه الأسباب أيها السائق الفضولي."
ربت على كتفها بمودة قائلا:" كلا يا بنيتي، لا أتفق معك ، فصحيح أنك الآن في عذاب ، لكنه ليس دائما فسيزول ببعض الصبر، والإرادة، وتعودين إلى حياتك الطبيعية كما كنت تحبين من قبل فعذابك الآن حقيقة يمكن له أن يتغير نحو الأفضل ربما اليوم أو إذا، أو حتى بعد شهر .. وتنتهي آلامك ، لكنك لو انتحرت فستجدين نفسك في عذاب دائم أبدي، ألم تسمعي قوله تعالى:
"ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما, ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا."
أنعشتها كلماته فعادت تقول بحسرة : " وماذا أفعل الآن ؟ إن أسرتي لن تقبل بوجودي بينهم إلى أن أضع مولودي، فأين أمضي؟ " ابتسم السائق في وجا مطمئنا ثم قال :" إن الخير لازال في الناس، ولن تفتقدي أختا أو خالة أو إحدى القريبات أو الصديقات ممن ستحسن بك طوال مدة حملك، ولكن شريطة أن تعودي عن غيك، وتتمسكي بالسبيل القويم، و إذاك سترتشفين من كوب الإيمان ، وتطعمين من طبق الفضيلة ..ولكن يجب أن تعترفي بأنك السبب في كل ما يجري لك ، فقسوة والدك ، ومراقبته الدائمة لك ، ونصائح اخوتك ، وأوامر أسرتك .كانت جديرة - لو اتبعتها – بحمايتك من كل الشرور التي قد تعترضك مسيرة حياتك، ولكنت الآن معززة داخل بيتك ، مكرمة بين أهلك .
فلماذا التمرد على الأسرة ، فلست تجنين من خلف ذلك سوى الشقاء ، وأين حبيبك؟ وأين سعادة القرب منه ، والاستماع إليه، والتملي بطلعته البهية الآن؟ إن هذه السخافات وهذا الهراء ، لن ينفعك حين تدق ساعة الجد وتزف بشائر الحقيقة.
أتم السائق كلامه المتسم بالحكمة ، واستدار يركب شاحنته وهو يقول :" أنصحك يا ابنتي أن تعودي إلى أهلك وتحاولي التأقلم مع أحوالك القاسية، حتى تجدي مثوى لك لحين وضعك، وآمل أن تزيحي فكرة الانتحار من مخيلتك.فلم يكن الانتحار – ولن يكون- حلا لأي مشكل مهما كانت نوعيته.فهل تشاطرينني الرأي؟"
حركت حنان رأسها علامة الإيجاب في شرود ، وانطلقت الشاحنة مواصلة طريقها، بينما ظلت هي توازن بين واقعها وظروفها، وبين جميع ما قاله السائق من نصائح، واحتدم الصراع في أعماقها بين الخير والشر ، واحتدم كثيرا..
ومع أنوار السيارة القادمة حُسم الموقف ....
حُسم تماما ...
الموضوع الاصلي
من روعة الكون