بسم الله الرحمن الرحي
الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها
قوة الجاذبية للشمس تمنع الكواكب من الانفلات عن مداراتها حول الشمس
قال الله جل وعلا:
﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾(الرعد:2).
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾(لقمان:10).
أخبر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أن من حكمته أن خلق السمواتِ، ورفعها﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾. والعَمَد هو الدعائم؛ وهو اسم جمع عند الأكثرين، ويدل على الكثرة. والمفرد: عِماد. أو: عَمود. وقيل: إنه جمع. والمرجح هو الأول. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب:﴿ عُمُدٍ ﴾، بضمتين؛ وهو جمع: عِماد؛ كشهاب وشهب. أو جمع: عَمود؛ كرسول ورسل. ويجمعان في القلة على: أعمدة.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ على قولين:
أحدهما: أنها مرفوعة بغير عمد ترونها، قاله قتادة، ومجاهد، وإياس بن معاوية وغيرهم. وذلك دليل على وجود الصانع الحكيم، تعالى شأنه.
والثاني: أنها مرفوعة بعمد، ولكنا لا ترَى. قال ابن عباس: وما يدريك أنها بعمد، لا ترى؟ وحكى بعضهم عنه أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض، والسماء عليه كالقبة، وهو قول ضعيف.
قال أبو حيان في البحر المحيط:” والجمهور على أن السموات لا عمد لها البتة. ولو كان لها عمد، لاحتاجت تلك العمد إلى عمد، ويتسلسل الأمر. فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية. ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ وََيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾(الحج: 65)، ونحو هذا من الآيات .
وقال أبو عبد الله الرازي: العماد ما يعتمد عليه، وهذه الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة الله تعالى، فعمدها قدرة الله تعالى، فلها عماد في الحقيقة، إلا أن تلك العمد إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز العالي، وأنتم لا ترون ذلك التدبير، ولا تعرفون كيفية ذلك الإمساك. وعن ابن عباس : ليست من دونها دعامة تدعمها ، ولا فوقها علاقة تمسكها “.
وانبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في موضع جملة ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ من الإعراب، فذكروا فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنها استئنافية، جيء بها للاستشهاد على كون السموات مرفوعة كذلك. كأنه قيل: ما الدليل على ذلك ؟ فقيل: رؤيتكم لها بغير عمد. فهو كقولك: أنا بلا سيف، ولا رمح تراني.
والثاني: أنها حالية من السموات. أي: خلقها، أو رفعها مرئيَّةً لكم بغير عمد. فالضمير للسموات.
والثالث: أنها صفة للعمد. أي: بغير عمد مرئية، فالضمير للعمد. واستدل لذلك بقراءة أبي بن كعب:﴿ تَرَوْنَهُ ﴾، بعوْد الضمير مذكرًا على لفظ: عمد.
فعلى تقدير الاستئنافية تكون السموات مرفوعة بغير عمد، وكذلك على تقدير الحالية. وأما على تقدير الوصفية فيحتمل توجُّه النفي إلى الصفة والموصوف، فيكون حكم السموات كحكمها في التقدير الأول والثاني؛ لأنها لو كان لها عمد، لكانت مرئية.. ويحتمل توج إلى الصفة دون الموصوف، فيفيد أن للسموات عَمَدًا، لكنها غير مرئية.
وتحقيق القول في هذه الآية الكريمة أن نقول:
أولاً- إن نفي الذات الموصوفة بأداة من أدوات النفي، قد يكون نفيًا للصفة دون الذات، وقد يكون نفيًا للذات والصفة معًا.
فمن الأول قوله تعالى:
﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾(الأنبياء:8).
أي: بل هم جسد يأكلونه.
ومن الثاني قوله تعالى:
﴿ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ﴾(البقرة:273).
أي: لا سؤال لهم أصلاً، فلا يحصل منهم إلحاف. وقوله تعالى:
﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾(غافر:18).
أي: لا شفيع لهم أصلاً، يطاع فيشفع لهم، بدليل قولهم:
﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴾(الشعراء:100).
ويسمى هذا النوع عند أهل البديع:” نَفْيُ الشيء بإيجابه “.
وعبارة ابن رشيق في تفسيره:” أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء، وباطنه نفيه، بأن ينفى ما هو من سببه؛ كوصفه، وهو المنفي في الباطن “. وعبارة غيره:” أن ينفى الشيءُ مقيدًا، والمراد نفيه مطلقًا، مبالغة في النفي، وتأكيدًا له “.
ومنه قوله تعالى:
﴿ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾(المؤمنون:117)
فإن الإله مع الله تعالى لا يكون إلا عن غير برهان.
ثانيًا- لفظ ﴿ غَيْر ﴾، موضوع- في الأصل- للمغايرة، وهو مستلزم للنفي، ومعناه عند الجمهور كمعنى ﴿ لَا ﴾ النافية؛ إلا أن بينهما فرقًا من وجهين:
أحدهما: أن ﴿ غَيْر ﴾ اسم. و﴿ لَا ﴾ حرف.
والثاني: أن ﴿ غَيْر ﴾ معناها المغايرة بين الشيئين. و﴿ لَا ﴾ معناها النفي المجرد.
ولتوضيح الفرق بينهما نقول: إذا قلت:( أخذته بذنب )، فـ﴿ ذَنْبٌ ﴾ هو الذي أخذته به. وإذا قلت:( أخذته بلا ذنب )، فـ﴿ لَا ذَنْبَ ﴾ هو الذي أخذته به، وهو بمنزلة ﴿ ذَنْبٍ ﴾ في الإثبات.
فإذا قلت:( أخذته بغير ذنب )، فـ﴿ غَيْرٌ ﴾ هو الذي أخذته به، و﴿ ذَنْبٌ ﴾ لم تأخذه به؛ لأن لفظ ﴿ غَيْر ﴾ مسلوب منه ما أضيفت إليه. وما أضيفت إليه هنا هو ﴿ ذَنْبٌ ﴾، فهو المسلوب منها.
ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾(آل عمران:112).
فـ﴿ غَيْرٌ ﴾ هو الذي قتلوا به، و﴿ حَقٌّ ﴾ لم يقتلوا به؛ وإنما أضيفت ﴿ غَيْرُ ﴾ إليه؛ لأنها اسم مبهم، لا يفهم معناه إلا بالإضافة. ولما كان مدلول ﴿ غَيْرٍ ﴾ المغايرة، كان معنى﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾: بباطل.
ثالثًا- النفي بـ﴿ غَيْرٍ ﴾ يرد- في اللغة- على أوجه؛ منها:
أن يكون متناولاً للذات، إذا كانت غير موصوفة؛ كقوله تعالى:
﴿ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾(آل عمران:112).
وقوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾(الحج:40).
فإن كانت الذات موصوفة، كان النفي بها واقعًا على الصفة دون الذات؛ كما في قوله تعالى:
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ (لقمان:10).
وقوله تعالى:
﴿ رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ (الرعد:2).
فالمنفي بـ﴿ غَيْرٍ ﴾- هنا- هو الرؤية، لا العمد. وعليه تكون السموات مخلوقة ومرفوعة بعمد، لا تُرَى، فتأمل ذلك، فإنه من الأسرار الدقيقة في البيان القرآني المعجز!!!
الموضوع الاصلي
من روعة الكون