كان يجلس أمام المدفأة في بيته شاردا...فأيقظه من شروده طرقات الباب...أصاخ السمع ليتأكد..إنها دقات خافتة متواصلة.. نظر إلى ساعته...لقد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل...ترى من يكون الطارق؟...قام إلى الباب بهدوء ونظر من ثقب الباب فلم ير شيئا..لكن الطرقات أخذت تتسم بالقوة فقال من خلف الباب: من هناك؟..
سمع صوتا خافتا يقول: هذا أنا يا سيف ..افتح الباب.
تعجب سيف فهذا الصوت لم يخالط أذنيه قبل اليوم..لكنه استجمع قواه وقال مرة أخرى: من أنت؟..أنا لا أعرفك..
قال الصوت مجيبا: أنا جارك في الحي...أرجوك افتح..
اطمأن سيف بعض الشيء وفتح الباب...
رأى أمامه رجلا ضخم الجثة ضخم العظام قاسي الملامح...تجمد سيف في مكانه بنما كان الرجل قد دخل إلى البيت...
التفت سيف بحدة وقال: ماذا تريد؟...
اقترب الرجل من سيف وقال:أغلق الباب..لدي كلام مهم علي أن أقوله لك...
ولمعت عيناه..ارتعب سيف في البداية...لكن شيئا ما دفعه لتنفيذ أوامر الرجل الغريب..فأقفل الباب...دخل سيف وتبعه الرجل إلى غرفة الاستقبال...جلسا متقابلين....قال الرجل الغريب:احزم حقائبك واستعد للرحيل...
قال سيف بدهشة: الرحيل؟...
قال الرجل: نعم..لماذا أنت مندهش؟...الم تعلم بأمر الرحيل من قبل؟...
قال سيف بدهشة: الرحيل إلى أين؟....
اقترب الرجل من سيف..وتقاربت أنفاسهما...ثم أطبق الرجل بذراعيه على عنق سيف وقال:الرحيل عن هذه الدنيا..
وأظلمت الدنيا في عيني سيف...
* * * * * * *
فتح سيف عينيه ووجد نفسه في مكان غريب ضيق ...قام من مكانه واكتشف أنه جالس في حفرة ضيقة باردة...التفت حوله ورأى برغم الظلام الدامس ذلك الرجل الغامض المخيف...انتفض سيف لمرآه..كان يحفر في الأرض ويجمع التراب في وعاء كبير...قال سيف بصوت أقرب للحشرجة: ماذا تفعل؟..لم أحضرتني إلى هنا؟..
التفت الرجل إليه ولمعت عيناه بوميض ناري وقال:أنا أجمع التراب لأطمر به هذه الحفرة...
قال سيف: ولماذا؟...
قال الرجل وهو يبتسم: أتتظاهر بالغباء؟..ألا تعلم أن هذه الحفرة الضيقة هي القبر الذي اُعِدَّ لك؟..
ارتجفت أطراف سيف وجمد لسانه ولم يقوَ على الكلام...
تابع الرجل مهمته في هدوء...واكتشف سيف بعد لحظات أنه مقيد بقيود صدئة على هذه الحفرة...حاول الإفلات من قيوده إلا انه لم يستطع...فتح فمه محاولا الصراخ بأعلى صوته ..لكن الكلمات لم تخرج من فمه..كان الرعب يسيطر عليه.
هبت رياح باردة عصفت بالمكان...وأخذ الضباب يدنو رويداً رويداً..
عرف سيف أنه في مقبرة...فارتجفت أوصاله....أغمض عينيه وتذكر أحداث الساعات الماضية....قال لنفسه:لابد أن هذا حلم...لا يمكن أن يحدث هذا الأمر...من المستحيل أن أموت الآن بهذه الطريقة..
وطافت برأسه جميع ذكريات الماضي...وارتسمت في الفضاء وجوه قاسية مخيفة..فأحس بالخوف يقتحم كيانه.
قطع أفكاره صوت خطوات الرجل وهي تقترب...فانتفض جسده داخل الحفرة...جثى الرجل بجوار الحفرة وأخذ يهيل التراب على الحفرة وسيف المقيد يصرخ بأعلى صوته:أرجوك ...دعني...لا تفعل هذا..
وشيئا فشيئا بدأت ملامح الرجل تتغير...عرف سيف أنه يرى أمامه ملك الموت...فارتجفت شفتاه وما عاد يشعر بما حوله...وأخذت ظلال الموت تطل عليه بصمت..
كان ملك الموت يقبض بكلتا يديه على عنق سيف الذي امتلأت عيناه بالدموع..واخذ يقول له بصوت مليء بالقسوة: ابك يا سيف...نعم.هيا ابك وتذكر أفعالك المشينة...ابك يا سيف....
ولانت يداه قليلا...وقال: أأنت خائف مني؟..
أومأ سيف برأسه ودموعه تنساب من بين أجفانه...فقال ملك الموت بوحشية:
كاذب....إذا كنت حقا خائفا من الموت لما عملت كل تلك الأعمال المشينة....
قال سيف من بين دموعه:أرجوك أعطني فرصة...فرصة واحدة وأنا أتعهد لك بتصليح كل شيء...
أمسك ملك الموت بأكتافه وشده إليه بعنف وقال: لا مفر لك يا سيف...لطالما جئتك برسائل وتنبيهات في حياتك..لكنك لم تعرني أي اهتمام...أتذكر يوم وفاة والديك؟...ألم أطل عليك برأسي حينها؟..ألم تر بوضوح كم الموت قريب من الإنسان؟...أتذكر يوم وفاة صديقك "مفيد"؟...شاب في بداية عمره سرقتُ منه حياته في لحظة...نعم إنها لحظة...لكنك لم تعر الأمر أي اهتمام....مضيتَ في درب العصيان وتركت الشيطان يطوقك بذراعيه....أتذكر يوم أن أهداك صديقك إسلام شريطا عن الموت فألقيت به في سلة المهملات؟...أتذكر كل هذا؟...أتريد أن أذكّرك بأعمالك المشينة؟...أتذكر المخدرات يا سيف؟...أتذكر السرقات؟...أتذكر العلاقات المحرّمة؟...أتذكر عصيان الأب والأم؟..أتذكر نسيان الصلاة؟...أين الخوف من الله في حياتك؟..أين خشيته أين حبه أين العمل على رضاه؟...أليس لديك قلب يا سيف؟...أليس لديك مشاعر؟..ألم تر إسلام يبكي غير مرة في صلاته؟..لماذا لم تتأثر؟...انظر إلى النعم التي أغدقها الله تعالى عليك..لم تزدك إلا بعدا عن الطريق..كم مرة جائتك تحذيراتي وتنبيهاتي..لماذا لم تفهم حينها؟...تدّعي انك ذكي متحضر..فأين ذكاؤك؟.هل أسعفك الآن؟..انظر إلى هذه الحفرة الباردة الضيقة...هذا مصيرك الذي تستحقه يا سيف لأنك لم تفسح المجال للنور النقي ليدخل قلبك...هذا مصيرك يا سيف...انظر إلى عيون الأفاعي البرّاقة التي تحيط بك...إنها تنتظر إشارة مني لتلتف حول جسدك وتنهش لحمك وعظامك لتفوح رائحتك النتنة في الأجواء...تذكر لحظات بُعدك وعصيانك وفجورك...تذكرها وابك عليها...وسواء عليك أبكيت أم لا ...هذا هو مصيرك....
أخذ سيف يبكي بحرقة ويصيح: اتوسل إليك أن تمهلني...أعطني فرصة....لا تأخذ حياتي مني...أرجوك دعني أعود إلى الحياة...أنا خائف من هذا المصير....إن الحفرة ضيقة وباردة...كيف سأطيق البقاء داخلها....دعني.. أرجوك أتوسل إليك..أليس الله "غفورا رحيما"؟..ألا أستطيع أن أتوب الآن وأعود إليه...دعني أعد إليه وألوذ بحماه فأنت قاس لا تعرف معنى الرحمة...لكنه هو وحده الذي سيؤويني ويحميني ويحرسني....دعني أعد إليه وأرتمي على أعتابه...أنا...أنا أعرف أنني عاص فاسد...لكنني أريد العودة إلى رحابه الآمنة...أريد أن يرضى عني..أريد أن أتوب إليه عن كل أعمالي.....
نظر إليه ملَك الموت مليا...ورأى نظراته الحزينة الآسفة...لقد كان نادما بحق...كان الأسى يأكل قلبه...فرقّ لحاله...لكنه لا يستطيع مخالفة الأوامر...فقال: اعذرني ولكن الأوان فات....
ومزقت صرخات سيف السكون....وساد الصمت لحظات...ومضى ملَك الموت وقد أنهى مهمته..
* * * * * *
الله أكبر الله أكبر.....
صوت المؤذن يصدح بأذان الفجر...فتح سيف عينيه..واستيقظ على صوت الأذان لأول مرة في حياته...
"لقد كان حلما".....
واجتاحت السعادة كيانه..."لقد أعطاني فرصة...لا أزال على قيد الحياة..."
وقفز من فراشه وذهب إلى الحمام وتوضأ وخرج إلى الجامع تسابقه دموعه...إنها أول مرة يصلي فيها الفجر في الجامع..
وقف سيف بخشوع...وتناهى إليه صوت الإمام يقرأ:
]قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم* وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تُنصرون* واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون* أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرّطت في جنب الله وإن كنتُ لمن الساخرين* أو تقولَ لو أن الله هداني لكنت من المتقين* أو تقولَ حين ترى العذاب لو أن لي كَرّة فأكونَ من المحسنين* بلى قد جاءتك آياتي فكذبتَ بها واستكبرتَ وكنت من الغافلين*ويوم القيامة ترى الذين كذَبوا على الله وجوههم مسوَدّة أليس في جهنم مثوىً للمتكبرين؟[ الزمر
كان الإمام يقرأ...والدموع تنهال ساخنة غزيرة من مقلتي سيف...لقد دخلت قلبه هذه الآيات...هزته من أعماقه...أيقظت عاطفة صادقة ذوت شعلتها في موكب الضياع...فانتعشت روحه من جديد..وغسلت الدموع قلبه فعاد يتلألأ بحب الله..
"عدت إليك يا رب...وها أنا ذا عبدك الحقير الفقير الذليل أضع رحالي على أعتابك..راجيا منك العفو عما كان...لقد أخطأت كثيرا...وبعدت عنك كثيرا...وها أنا اليوم واقف ببابك ذليل منكسر الخاطر...فاقبلني ببابك ولا تطردني من أعتابك...ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ..فلئن طُرِدتُ فأي باب أقرعُ؟..إن لم ترحمني فمن الرحيم سواك؟..إن لم تقبلني فمن يقبل المذنبين.؟
اعف عني وسامحني فأنا قد عدت إليك...وعزتك سأبدأ حياة جديدة...فانا اليوم قد عرفتك يا إلهي...عرفت أنك معي..ولن تتركني...عرفت أن حبك خالط دمي فمشى مع كل شريان وكل وريد....حبك الآن يملا قلبي...رباه أنا عدت...عدت إليك..."
ركعتان في ليلة حالكة الظلمة...دموع رسمت لوحة ندم....آهات ندت عن القلب الحزين فمحت وسطرت صفحة جديدة من الأمل والتفاؤل......
الموضوع الاصلي
من روعة الكون