بصوت صفارة حاد أعلنت بداية المباراة. صراخ....هتافات....لافتات... جو يشوبه التوتر يحيط بتلك الحلبة الضيقة التى احاطها المشجعون من كل جانب , آملين أن يقضوا وقتا ممتعا ويروا مباراة شيقة. وقف للحظات ينظر إلى خصمه الذى بدت ملامح وج واثقة من الفوز....ابتسامة بجانب شفتيه وعينان تلمعان من التحمس ,لم يستطع أن ينظر إليهما طويلا فذلك التحدى فيهما كان يشعره بالخوف. كان يعرفه جيدا ودائما ما كان يتجنب تلك المواجهة ولكنه كان يوقن أن ذلك اليوم قادم لا محالة , وهاهو الآن يقف أمامه لا يفصلهما جدار ولا تبعدهما غير خطوات قليلة. يجمعهما الوقت والمكان وتلك الحلبة التي أحاطت جهاتها الأربعة حبال, تحاصره وكأنها حول عنقه, تخيفه وكأنها أفاع تتربص به. ضم الخصم قبضتيه بقوة آخذا وضع الاستعداد وتلك الابتسامة لا تفارق شفتيه. فما كان منه إلا أن أخذ خطوات إلى الوراء... مع كل خطوة كان يشعر أنه يقترب أكثر من الهزيمة وأن قدماه تقودانه إلى الفشل... وخصمه يتقدم بخطوات قوية ثابتة ,كان يشعر بوقعها رغم الضجيج الذى ملأ المكان...حتى أنفاس الخصم كانت تخترق أذنيه دون استئذان. خطوة تتبعها أخرى وقدماه ثقيلتان تزحفان على أرض الحلبة تبحثان عن طريق للهروب ...والجمهور يصيح يريد البداية... يريد الإثارة...يريد الهجوم... أصوات قليلة متفرقة كانت تصارع عاصفة التشجيعات التي كانت تهتف باسم خصمه وأخذت تنخفض وتبعد مع كل خطوة كان يخطوها للوراء. أحس بظهره يلمس حبال الحلبة , لم يعد هناك مفر ...أدرك أن خصمه لن يرحمه وأن المباراة التي لم تبدأ بعد قد شارفت على الإنتهاء. سدد الخصم أول ضرباته , كانت لكمة قوية انطلقت لتستقرعلى جانب فمه تاركة مكانها بقعة من الألم المبرح و قطرات من دماء شفتيه ثم تبعتها أخرى كادت أن تكسر فكه ثم أخرى...وهو يقف فى مكانه لا يتحرك يقاوم السقوط ومزيج من العرق والدماء والدموع بدأ يخفي ملامح وج التي خلت من أي تعبير حتى ما يظهر الألم. كان يتلقى اللكمات واحدة تلو الأخرى في استسلام قد اعتاده فهكذا أيضا كانت حياته سلسلة من اللكمات ... لكمة على خده الأيمن وقصة حب فاشلة انتهت فصولها بزواج بطلتها من فارس غيره يمتطي سيارة فاخرة و يتمتع بظروف أفضل. لكمة على خده الأيسر وحلم ضائع بأن يصبح جراحا بعد أن فضلوا عليه زميله سليل الأساتذة والذي أخذ بالفعل مكانه في المستشفى. لكمة أخرى وخداع من صديق عمره الذى انتزع منه وظيفته بلعبة رخيصة وتتابعت اللكمات وتتابعت معها الذكريات ودارت حياته أمامه كشريط سينمائي يعرض الأمنيات التي عاشها والواقع الذي صدم به... لم يعد يشعر بالألم فتلك الجراح بداخله كانت أشد وأعنف. كان دائما يحلم أنه سيكون شخصية ذات شأن ... جراحا ماهرا وعالما مشهورا وأيضا فنانا وكاتبا و رياضيا . لم يكن يظن أن لقدراته حدود وكان يرى أن العالم كله ملكه وأنه ملك كل من يمتلك العزيمة والطموح. لم يعد يسمع صوت الجمهور ولا صوت اللكمات, أغمض عينيه غارقا في ذكرياته تاركا لخصمه جسمه فى خضوع. تذكر يوم أن تخرج الأول على مدرسته وكيف كان كل من يعرفه يشهد بأنه موهوب...موهوب فى كل شئ. تذكر نظرة الأمل في عيني أبيه وكلمات التشجيع التي كان لسانه دائما يقطر بها...مشاهد من ليال قاسية أخذت تتأرجح أمام عينيه... ليلة وفاة والده...ليلة زفاف حبيبته...ليال كان يقضيها فى حساب نفقات البيت واضعا أمامه مرتبه الزهيد وفواتير الماء والكهرباء. لم ينس أبدا تلك الفرحة التي رآها فى عيون الحاقدين وكيف أن أحدا لم يعذره لم يفهم لماذا فشل... لماذا انهار...أحس بالأرض تدور تحت قدميه. رفع عينيه إلى ذلك الجمهور الذي كان ينتظر سقوطه . شعر أنه كالمهرج الذى يلبى ما يطلب منه ليسعد الحاضرين. سقط على ارض الحلبة صامتا لم يصرخ لم يتأوه. أيقن أن مباراته قد حسمت وأن المعركة قد انتهت وانتظر من يعلن فوز خصمه ...عدوه اللدود. نظر إليه وهو رافع ذراعيه يحيي جمهوره المهلل... أخذ يتأمله...يتأمل ذلك الهزيل الذى هزمه . يتأمل وج الذي غطته الكدمات والجروح ... وقف الخصم بجانب رأسه مختالا بنصره ناظرا إليه في سخرية أطلقت فى رأسه وابلا من الأسئلة... كيف هزم بتلك السهولة ؟ كيف سقط بهذه السرعة؟ كيف هزمه من هو أضعف منه؟ لماذا لم يقاوم ؟ ...أسئلة لم يجد لها أجوبة ولكنها حركت بداخله الرغبة فى الانتقام . وضع كفيه على الأرض محاولا النهوض لكنه لم يستطع كان خصمه يضحك فى سخريه واثقا أنه لن ينهض أبدا. ظل يحاول وجسمه الضعيف يجذبه نحو الأرض وقدماه تأبى أن تحملاه. شعر بالأرض من تحته نارا ستحرق ما تبقى منه إن لم يدافع عنه بالنهوض . و أخيرا نجح وقام ...وقف مرة أخرى أمام خصمه الذي بدت عليه ملامح الذهول والدهشة. أحس بالدماء تدب فى عروقه من جديد تحث يديه أن تتحركا وشعر بالقوة تنبت فى قبضته حاملة معها كل الذكريات و الآلام والأحزان. كانت الضربة التي أنهت كل شيء.. كانت الضربة الأخيرة .., كانت سريعة قوية و موجهة لم يستطع الخصم تفاديها فسقطت على خدة الأيسر. شعر بألم شديد فى يده اليمنى و رأى خيوط الدم تنساب بين أصابعه...نظر إلى زجاج المرآة المكسور أمامه يعكس أجزاء وج الشاحب وهالات سوداء حول عينيه كأياد تسرق منهما الأمل ولحية منطلقة فى حرية تعبر عن أيام وأسابيع مضت ودمعة لا تزال تجرى على خده وقد ضلت طريق أخواتها...تأمل تلك الحجرة المظلمة وحاول أن يتذكر كم لبث فيها يبكي وحده تاركا ستائرها تواجه أى شعاع ضوء يريد التسلل بين طياتها إلا ما يكفى لرؤية وج الحزين. مشى نحوها وهو يضمد جرحه وازاحها بقوة أثارت الغبار ليرسم اشعة الضوء التى انتلقت في حرية تضئ المكان...كانت يده قد كفت عن النزيف وقد نسى الألم. فتح النافذة ومد رأسه يتطلع خارجها وقد أدرك أن المباراة لم تنته بعد...
الموضوع الاصلي
من روعة الكون