السلاام عليكم
أيُّ ذنب هذا الذنب الذي ارتكبته الطفلة هدى ابنة العشرة ربيعا حتى ترجو أباها، عند دفنه، أن يسامحها؟!
كانت هدى تسبح في البحر عندما انطلقت منه القذائف لتسقط على الشاطئ، فتقتل أباها وأمها وأخاها الرضيع هيثم وأختاها هنادي (عامان) وصابرين (4 أعوام).
إنَّ ذنبكَ ـ يا هدى ـ لا يُغْتَفَر، فوالدكَ وعدكَ أنْ يأخذك مع والدتك وأخيك هيثم وأختيك هنادي وصابرين في نزهة إلى البحر وشاطئه إذا ما نجحتِ في امتحاناتك المدرسية؛ وقد برَّ بوعده. أمَّا أنتِ فوعدتيه أنْ تظلِّي بجانبه، ولا تذهبي إلى البحر وحدك، فالبحر غدَّار، وهو يخشى عليك منه؛ ولكنكِ لم تفِ بوعدك، فكان الذي كان، وما عليك بعد الآن إلا أن تقضي عمرك كله تسألينه المسامحة والغفران..
إنَّ كل هذا البحر من الدموع الذي تفجَّر من عينيكِ، وصرختك المدوية في البرية "لا تتركوني وحدي"، وغيابك عن الوعي غير مرة، وضربك على رأسك وصدرك، ودفن وجهك في الرمل، وحتى تقبيلك وجه والدك وهو يمضي بعيدا عنك في تراب القبر، لن يشفع لك.
قد نغفر لك كل تلك الذنوب الكبيرة أيتها الصغيرة، ولكننا لن نغفر لك أبدا ذنب بقائك على قيد الحياة، فأنتِ بنجاتك من الموت أعلنت موت خير أمة أُخرِجت للناس، وإنْ ظلَّت تأبى الاعتراف بموتها قبل دفنها، ورسمتِ بالدمع والدم على جبينهم العار.
كنا نشفق على "الموؤدة"، فَلْنَشْفق عليك يا هدى، فإذا هدى سُئِلت بأي ذنب بقيت على قيد الحياة!
هدى بالله عليك لا تصرخي، فصرختك مزَّقت سمع والدك، ولكنها لم تقع على أسماع تشبه سمعه، أو سمعك، فهؤلاء بعضهم، أي أكثريتهم، جثة هامدة، وبعضهم، أي أقليتهم الحاكمة المتحكمة، إنما هم بروتوس مع أبنائه وأحفاده، لا خناجر في أيديهم سوى خنجر الخزي والعار الذي أورثهم إياه.
لا تسأليهم عن دماء عائلتك، فهم أمَّة تستنفد وقتها وجهدها في إنجاز فتاوى تجيز ذبح الدجاج بدلا من الخراف في عيد الأضحى، أو في إبطالها بدعوى أن الأضاحي لا تحل إلا من بهيمة الأنعام.
لا تجادليهم في "وامعتصماه"، فقبائل العرب تأبى التوحُّد في قبيلة واحدة، لها رب واحد، وانتماء واحد، وقدر واحد.
إننا على ديدننا باقون، نشحذ النصر من عنده تعالى، ندخل الحروب بكل ما أوتينا من مواهب الخطابة، نعلف في زريبة السلطان، نركع، ونركع، حتى ملَّنا الركوع، لا عقل لنا، ولا رأي، ولا أقدام.. نُجلد كل جمعة بخطبة غراء، تتوعد اليهود ودولتهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.
لا تبكي ـ يا هدى ـ أخاك الرضيع هيثم الذي قتلناه نحن بدم بارد. قتلناه بعدما قتله حالوتس؛ لأنه أراد أن يُعلِّمنا الأبجدية العربية الصحيحة، فَمِن أجل أن نكون عربا لا يكفي أن تكون عيوننا سوداء، وأن نرتدي كوفية وعقالا وعباءة مصنوعة من وبر الجمل.. لا يكفي أن نتمنطق بالخناجر المعقوفة، ونحفظ ألفية ابن مالك، وكتاب الأغاني، ومقامات بديع الزمان الهمذاني.. ونشرب القهوة المرَّة.
قتلناه؛ لأننا مُدُن لا تعرف مثلكِ اقتحام البحر، وتكتفي باصطياد الأسماك على شواطئه، مؤثْرة السلامة كالخراف والأرانب، وسكن السفح بدلا من البرق والعاصفة والهاوية.
إياك ـ يا هدى ـ أن تتساءلي أو تسأليهم "أين الملايين؟"، فهؤلاء إنما بشر لا يثورون ولا يشكون، لا يغنَّون ولا يبكون، لا يموتون ولا يحبِّون. على رصيف الفكر يتسكعون، عن التفكير عاطلون، في مطبخ الباب العالي يأكلون، وفي زريبته يعلفون، وبسيفه الطويل يضربون، وفي خارج التاريخ يقيمون، يقضون العمر في بلاط السلطان يستجدون، وبحمده وحده يسبِّحون.
المسرح احترق ـ يا هدى ـ وما مات الممثِّلون. مخصيو اللسان والفكر يعيشون. أحصنة من خشب يركبون، وأشباحا وسرابا، إنْ قاتلوا، يقاتلون.
أنتِ وحدك ـ يا هدى ـ كتبتِ، بدم هيثم الوردي، الأجمل من إلياذة هوميروس، وملحمة جلجامش، والماهاراتا الهندية، والشاهناما الفارسية.. فككتِ السحر، وقتلتِ السحرة، قهرتِ الموت، وأجبرته على أن ينحني لك إجلالا واحتراما.
أنتِ وحدك امتلكت البحر في عينيكِ، ووضعتِ الشمس بين يديك، وكل هذا التاريخ تحت قدميكِ. أتذكرين ـ يا هدى ـ ذاك "الحكيم" إذ قال "الحرب ليست نزهة"، فاسأليه الآن "متى النزهة كانت حربا؟!".
منقول
الموضوع الاصلي
من روعة الكون