بسم الله الرحمن الرحيم
هذه قصة قرأتها وآلمتني كثيراً لقد صحوت من غفلتي بعد قرائتها..
وإليكم القصة:
الساعة تقترب من الثامنة حينما استيقظت .. - لقد تأخرت ...
قلتها .. وأنا أصّر أسناني غيظاً ،
من المنبه .. الذي يخذلني في كل مرة ...
نفضت الشرشف عن جسمي ، وقفزت من فراشي .
الرّبع ساعة التي أمضيها عادة في الاستعداد ،
أختصرتها إلى خمس دقائق .
ركبت السيارة وأنطلقت ..
كل شئ إختصرته .. إلا السرعة ، فإنها قد تضاعفت .
يجب أن أصل ، ولو أدرك نصف الاجتماع .
كان ذهني مشغولا بحساب عدد التقاطعات المتبقية ،
حتى أصل إلى الطريق السريع ،
عندما دوى إرتطام ، عنيف في الجانب الأيمن من مؤخرة سيارتي ، وعكس اتجاا تماما .
حينما استعدت توازني ، بعد مفآجأة الصدمة ،
كانت (أشلاء) سيارتي متناثرة أمامي ، ولمحت من بعد ، السيارة التي صدمتني تلوذ بالفرار ..
قلت في نفسي :
سيارة فخمة .. لماذا يهرب صاحبها ، ورفرف من رفارفها يعادل قيمة سيارتي ..؟
لم أحتج لتفكير طويل ، لكي أقرر أن أطارده وأنسى الاجتماع .
الصدمة قوية ، والتلفيات في سيارتـي كبيرة ، وأنا لا أستطيع أن أتحمل خسائر بهذا الحجم ..
الاجتماع يمكن أن يعوض .
هكذا حدثت نفسي ، وأنا أنطلق وراءه بنصف سيارة تقريبا .
كان مرتبكا ، لذلك لحقته بسرعة ، وبدأت مطاردة غير متكافئة بين سيارته الفارهة ،
والـ (نصف) المتبقي من سيارتي . شعر أني مدركة .. لا محاله ..
فأنا صاحب حق ، والوضع الذي آلت إليه سيارتي ، لم يبق لي شيئا أخسره .
عند أحد المنعطفات خفض من سرعته كثيرا .
لاحظت ذلك ، من نور الكوابح الذي ظل مضاء أطول من كل مرة .
لقد استسلم .. قلت لنفسي ،
وبدأت آخذ وضع الاستعداد للوقوف . ، ، ، فجأة ..
رأيت باب الراكب الذي بجانبه يفتح ،
ولاحظت أنه يميل ، ويدفع (شيئا) إلى الخارج ..
ثم أعقب ذلك صريخ عال لعجلات سيارته يصم الآذان ،
وهو ينطلق بسرعة عاليه ، تاركا المكان ممتلئا برائحة إحتراق الاطارات ،
إثر إحتكاكها الهائل بالارض .
حينما فتح الباب .. وقذف بذلك (الشئ) ، كان أول ما سقط حقيبه ..
ثم شيئا ملتفا بقماش أسود .. كأنه ..
- يا إلهى .. إمرأة .. بل فتاة .. !!!!!
هكذا صرخت ، وأنا أتقدم ببطء تجاه ذلك (الشئ) ، الذي قذف من السيارة .
نهضت .. وأخذت تنفض الغبار الذي علق بعباءتها ، وتتراجع ملتصقة بالجدار .
حينما اقتربت منها ، أخذت تبكي ، وهي تلملم أطراف (مريولها) الذي تمزق ،
إثر سقوطها من السيارة .
- طالبه ..
قلتها ، وأنا أنظر إلى (مريولها) ،
وأغراضها المدرسية التي تناثرت من حقيبتها ..
وقفت قريبا منها ، وصرت أسمع بكاءها ، وحشرجة صوتها وهي تقول :
- أرجوك .. أرجوك .. أستر علي ، الله يخليك .. لا تفضحني ..
لم أدر ماذا أصنع .
شعرت بإرتباك وحيرة شديدة .. وتعطلت قدرتي على التفكير .
الموقف يبعث على الريبة : أنا .. وفتاة .. على ناصية الشارع .
ثوبها ممزق ، وأغراضها مبعثرة على الأرض ..
قلت لها .. بعد تردد ، دون أن أحدد ما هي خطوتي التالية :
- اركبي .. سأوصلك إلى بيت أهلك ..
صاحت ، بهلع :
- لا .. لا أريد بيت أهلي .. ستذبحني أمي .. أرجوك ..
كان يجب أن أتصرف بسرعة ، خاصة وأن المشهد أصبح ملفتا للنظر .
السيارات المارة ، صار أصحابها يحدقون بنا ، وكاد فضول بعضهم يدفعه للتوقف .
- اركبي الآن .. ونتفاهم فيما بعد .. في المقعد الخلفي لو سمحت ..
شرعت أجمع أغراضها ، التي تناثرت من حقيبتها المدرسية .. ثم عدت أدراجي إلى
السيارة ..
لم تكن قد ركبت .. ، ، - لماذا لا تركبين ..؟
- الباب لا ينفتح .. - تعالي إلى هذا الباب ..
ألقيت نظرة إلى داخل السيارة ، كان حطام الزجاج يملأ المقاعد الخلفية ..
- أووف .. لا باس .. إركبي في المقعد الأمامي ..
ركبت ، وحينما أستوت على المقعد ، أخذت تجمع عباءتها ،
لتغطي بها (مريولها) الممزق، الذي أنشق عن ساقها إلى أعلى ركبتها بقليل .
لمحت كفها .. بيضاء صغيرة ، خمنت أنها لا تزيد عن الخامسة عشرة . -
أنا : تدرسين ..؟
هي : نعم ..
أنا : في أي صف ؟
هي : الثالث متوسط ..
كان ظني في محله .. لون (مريولها) يشبه لون مريول شقيقتي ،
التي تدرس في نفس المرحلة .
أنا : (وش) إسمك ..؟
هي : موضي ...
كنت أسير بالسيارة على غير هدى ، وطاف في رأسي كثير من الأفكار :
أسلمها للهيئة .. !!!
ارجعها إلى بيت أهلها ..!!!
أعيدها للمدرسة ..!!!
أنا قطعا لا أستطيع أن ابقيها معي ..
سألتها : - موضي .. من هذا الذي كنت معه ..؟
لم ترد على سؤالي .. ولا أدري تحديدا لم سألتها .
كنت أريد أن اختلق حوارا ، لأصنع جوا من الثقة ،
يساعدني في فهم ملابسات أمرها .. ويمهد الطريق إلى قلبها ..
القلـوب المغلقة مثل دهاليز الاستخبارات ..
مرتع خصب للخوف .. والتوجس .. والشك .. والريبه ..
الساعة الآن تجاوزت التاسعة والنصف .. الوقت يمضي ،
وأمامي أعمال كثيرة يجب أن أؤديها .. ،
حين فشلت محاولتي لإستدراجها للكلام ،
رأيت أن احسم الموضوع مباشرة ..
قلت لها :
- موضي يجب أن تختاري بين أمرين ..
أسلمك للهيئة ،
أو
أوصلك لبيتكم ..
بقاؤك معي غير ممكن .. كما أن أهلك لابد أن يعرفوا عن سلوكك ..
أنفجرت باكية ، وبطريقة تنم عن سلوك طفولي حقيقي ،
رفعت غطاء وجها ، وهي تتوسل إلي بعينين دامعتين ، أن لا أفعل ...
- أرجوك ... إذبحني .. لكن لا تسلمني للهيئة .. لا (توديني) لبيتنا ..
والله هذي أول مرة أطلع فيها مع رجال ..
ضحكت علي البندري ...
اشفقت على ذلك الوجه الطفولي البرئ .
قلت لها ، وأنا أسحب يدي من يديها ، وهي تحاول أن تجرها لتقبلها ،
رجاء أن لا أسلمها للهيئة ، أو لأهلها :
أنا : - طيب .. طيب .. خلاص .. لن أسلمك لأحد .. لكن ما العمل ..؟
موضي: - إذا جاء وقت طلوع الطالبات .. أنزلني عند المدرسة ..
أنا : - متى ..؟
موضي: - الساعة الواحدة .. بعد صلاة الظهر ..
- بقي أكثر من ثلاث ساعات .. وأنا مشغول ..
أطرقت لحظات ،
تعاقب خلالها على وجا إنفعالات من كل نوع .. الرهبة .. القلق .. الخوف من المجهول .
ثم نظرت إلي بعينين فارغتين تماما من أي بريق .. وقالت :
- نزلني عند المدرسة .. -
أنا : وبعدين ..؟
موضي : - أنتظر .. وإذا طلعوا الطالبات .. أروح لبيت أهلي ..
شعرت في أعماقي بحزن شديد لهذه البراءة الساذجة .
هي بالتأكيد ليست من ذوات السلوك المنحرف المتمرسات ..
ولا تعي خطورة الذي تقوم به .. ولا عاقبة تصرفاتها ..
أنا : - أنت صاحية .. تقعدين في الشارع ثلاث ساعات ..؟
لم ترد بشئ ، لكن الفضول دفعني لأن أسألها عن مكان مدرستها ،
لأستدل من ذلك على اسم الحي الذي يسكنه أهلها ...
أنا : - أين مدرستك يا موضي ..؟
موضي : - في حي الأمل .. ،
أنا : حي الأمل ..؟؟؟ !!!!
شعرت بمثل المسمار يخترق قلبي ..
هذا من المضحكات المبكيات .
ما أكثر ما نسمي الأشياء بغير حقيقتها ..
ما أكثر ما نزيف المعاني .. والواقع .. والاحلام ..
هذا أفقر أحياء الرياض .. لو سموه (حي اليأس) .. أو البؤس .. أو التعاسه .
الأمل ..؟
إن كان فيه للأمل بصيص .. فوجود هذه (الزهرة) فيه ..
هذا الكائن الطفولي الذي تتعرض البراءة فيه للإغتيال ..
تداعت إلى ذهني الصور والمعلومات التي لدي عن حي (......) ،
وحاولت أن أفهم العلاقة بين تلك السيارة الفخمة وحي (.....) ،
حيث تقيم موضي .
لا يمكن أن يكون صاحب تلك السيارة يقيم في ذلك الحي ..
لسبب بسيط هو أن ثمنها يعادل قيمة خمسة من (جحور) ذلك الحي ،
التي يطلق عليها مجازا .. (منازل) ..
كما أن سيارته ستجد صعوبة في إختراق زواريب ذلك الحي ،
الذي لا يتسع أحدها ، إلا لمرور سيارة واحدة صغيرة ..
ولأن سكان ذلك الحي كذلك .. غالبا ما يتسببون بإغلاق الشوارع ،
بايقاف سياراتهم بطريقة خاطئة ، لا تتحملها هذه الطرق ، الضيقة أصلا .
ماذا يكون ...؟
إنه .. (أحدهم) ..
إنه فجور المترفين ، إذ يتربص بعوز المحرومين ..
وحرمـان البؤساء ، ليطلق غرائزه .. تفتك بإنسانية البسطاء .. وتفترس الشرف ، والكرامة ..
أعرف هذا الحي .
جئته في أحد المساءات ، قبل عام تقريبا ، بصحبة صديق ملتزم ،
من الناشطين في الأعمال الخيرية التطوعية ..
لتوزيع صدقات عينيه ومالية .
لا أدري كيف أقنعنـي عبدالكريم أن آتي معه .
فأنا رغم تعاطفي مع حالات البؤس الانساني ،
إلا أنني سلبي جدا في التعاطي معها .
أحتاج إلى وقت طويل ، لأتفاعـل مع الحدث ، أو الحالة ، وأحتاج لوقت مثله ،
لأترجم التفاعل إلى فعل ..
لم تكن المرة الأولى التي يعرض علي عبدالكريم فيها مرافقته ،
للقيام بمهمات من هذا النوع ، وكنت في كل مرة ، أتذرع بحجة مختلفة .
لكني أتذكر ، أنه في تلك المره استفزني ..
وسخر من (الانسان) البليد ، الجامد في داخلي ،
كما قال :
- هل تريد أن ترى البؤس يمشي على قدميه ..
هل تريد أن تستعيد شيئا .. شيئا فقط ،
من إنسانيتك المهدره ، بين كلام مجرد عن المثل والأخلاقيات ،
التي لم تجد لها رحما تتخلق فيه .. لتولد .. وتشب .. وتكبر .. وتمنح الحياة ،
لكائنات لم تعرف معنى للحياة منذ خلقت ..
وبين سلوك استهلاكي بشع ، حولتك الرأسمالية المتوحشة من خلاله ،
إلى (آلية) من آليات السوق .. أنت في قوائم التحليل الاقتصادي ،
عند (آدم سميث) ، وتلامذته .. رقما .. آليه .. قدرة شرائية .. أنت بإختصار .. (لا إنسان) ..
أنا : دع عنك الهمهمة المعتادة :
"الله لا يؤاخذنا صرفنا واجد اليوم" .
.
عبدالكريم : اليوم .. وكل يوم .. أنت تفعل الشئ نفسه .. تتقمص نفس الدور المسخ .. (آليه) ..
كأني بك مسرورا ، وهم ينادونك : MR. MARKET MECHANISM
اليوم .. وكل يوم .. أنت تمارس بسادية ، وأد الانسان في داخلك .
تعـال معي لتستعيد إنسانيتك ، حينما يفجرها الألم .. لمشهد الحرمان .. الـذي يصنعـه الفقر ..
تعال لترى الانسان عند نقطة الصفر .. كيف هو ..
أتعلم ماذا يكون الانسان عند نقطة الصفر .. ؟
تستلب الحياة من كل شئ فيه .. إلا عينيه ..
أتعلم ماذا يكون الانسان عند نقطة الصفر ..؟
الكلمات في قاموسه ليس لها أضداد .. أنت تعرف السعادة ..
وربما سمعت عن الشقاء ، هو لا يعرف الا الشقاء .
أنت تعرف شيئا اسمه الحزن .. والفرح ، هو لا يعرف إلا الحزن ..
أنت تعرف الشئ ونقيضه ، بدرجات متفاوته .. هو يعرف الكلمة وحدها .. بمعناها
السلبي فقط ..
بدون أضدادها ، وبأقصى درجاتها قسوة ..
البؤس .. والعجز .. والحرمان .. والألم .. والعري .. والجوع .. ، ،
استفزني عبدالكريم بكلامه ، واستثار التحدي عندي ،
فقررت أن أذهب معه .. لأرى هذه (البيئة) التي سوف تعيد خلق الانسان في داخلي ،
كما يقول ،
ولأتاكد إذا ما كان ذلك (الانسان) الجامد البليد موجودا ..
كنت اتنقل مع عبدالكريم ، من بيت إلى بيت ..
كنت معه في سباق مع الألم ..
في كل مرة يغرس نصلا ..:
يــــــتــــبـــــع...
الموضوع الاصلي
من روعة الكون