ص: 269 ] قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا }
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : { بلغن } : معناه قاربن البلوغ ; لأن من بلغ أجله بانت منه امرأته وانقطعت رجعته ; فلهذه الضرورة جعل لفظ بلغ بمعنى قارب , كما يقال : إذا بلغت مكة فاغتسل .
المسألة الثانية : قوله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } : هو الرجعة مع المعروف محافظة على حدود الله تبارك وتعالى في القيام بحقوق النكاح .
[
[.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : { أو سرحوهن بمعروف } : يعني طلقوهن . قال الشافعي : هذا من ألفاظ التصريح في الطلاق , وهي ثلاثة : طلاق , وسراح , وفراق . وفائدتها عنده أنها لا تفتقر إلى النية ; بل يقع الطلاق بذكرها مجردة عن النية .
وعندنا أن صريح الطلاق الذي لا يفتقر إلى النية نيف على عشرة ألفاظ , ولم يذكر الله تعالى هذه الألفاظ ليبين بها عدد الصريح ; وإنما دخلت لبيان أحكام علقت على الطلاق , فلا تستفاد منه , ما لم يذكر لأجله ولا في موضعه .
وقد بينا ذلك في المسائل , ولا يصح أن يجعل قوله هاهنا : { أو سرحوهن } صريحا في الطلاق قطعا ; لأن الله تعالى إنما أراد بقوله : { فأمسكوهن بمعروف } أي أرجعوهن قولا أو فعلا على ما يأتي بيانه في سورة الطلاق , إن شاء الله تعالى .
ومعنى { أو سرحوهن } أي اتركوا الارتجاع , فستسرح عند انقضاء العدة [ ص: 270 ] بالطلاق الأول , وليس إحداث طلاق بحال , وقد يكون الطلاق الذي كانت عنه العدة مكانه , فلا يكون لقوله تعالى : { سرحوهن } معنى .
المسألة الرابعة : حكم الإمساك بالمعروف : أن للزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها ; فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف , فيطلقها عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها .
فإن قيل : فإذا كان هذا العاجز عن النفقة لا يمسك بالمعروف , فكيف تكلفونه أنتم غير المعروف , وهو الإنفاق , ولا يجوز تكليف ما لا يطاق ؟ قلنا : إذا لم يطق الإنفاق بالمعروف أطاق الإحسان بالطلاق , وإلا فالإمساك مع عدم الإنفاق ضرار .
وفي الحديث الصحيح للبخاري : { تقول لك زوجك : أنفق علي وإلا طلقني . ويقول لك عبدك : أنفق علي وإلا بعني . ويقول لك ابنك : أنفق علي , إلى من تكلني . }
المسألة الخامسة : هذا يدل على أن الرجعة لا تكون إلا بقصد الرغبة , فإن قصد أن يمنعها النكاح ويقطع بها في أملها من غير رغبة اعتداء عليها فهو ظالم لنفسه , فلو عرفنا ذلك نقضنا رجعته , وإذا لم نعرف نفذت , والله حسيبه .
المسألة السادسة : قوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } قال علماؤنا : معناه لا تأخذوا أحكام الله في طريق الهزء , فإنها جد كلها , فمن هزأ بها لزمته .
[ ص: 271 ] وهذا اللفظ لا يستعمل إلا بطريق القصد إلى اتخاذها هزوا ; فأما لزومها عند اتخاذها هزوا فليست من قوة اللفظ ; وإنما هو مأخوذ من جهة المعنى على ما بيناه في مسائل الخلاف .
ومن اتخاذ آيات الله هزوا ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لامرأته : أنت طالق مائة . فقال : يكفيك منها ثلاث , والسبعة والتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا .
فمن اتخاذها هزوا على هذا مخالفة حدودها فيعاقب بإلزامها , وعلى هذا يتركب طلاق الهازل ; ولست أعلم خلافا في المذهب في لزومه ; وإنما اختلف قول مالك في نكاح الهازل ; فقال عنه علي بن زياد : لا يلزم , ومن أراد أن يخرج على هذا طلاق الهازل فهو ضعيف النظر ; لأن إبطال نكاح الهازل يوجب إلزام طلاقه ; لأن فيه تغليب التحريم في البضع على التحليل في الوجهين جميعا , وهو مقدم على الإباحة فيه إذا عارضتة
الموضوع الاصلي
من روعة الكون