الصمت الذي ولد مع طفل صغير، جعله يجلس دائماً ودموعه تتزاحم في محاجر عينيه، والتي بدت كقطرات ندى ابتلعت بعضاً من أشعة شمس ربيعية. كل هذا الحزن الطفولي العميق يبرز ويتعاظم عندما يرى الشجار والعراك يدب بين والديه. إنها معركة زوجية يراها كل يوم. طفل في الثالثة من عمره، ماذا ستراه يفعل سوى هزة نفسية تضطرب لها أمعاؤه وتتكسر لها كل البراويز الجميلة التي يحملها في نفسه لوالديه.
(2)
كبر الطفل وكبرت الأحزان معه. لم تعد الدموع تجدي ولا البكاء ولا الحزن فجبهة القتال والصراخ والبارود التي يرتع فيها جعلت قفصه الصدري محجراً للخفافيش والبوم والغربان. لقد فقد كل بارقة أمل يمكن أن تبزغ من والدته ووالده اللذين أهملاه بسبب مشاحناتهما التي لا تنفك تدك حصن الزوجية.
(3)
صمت الطفل، ثم صمت، ثم صمت. فتحولت آلامه النفسية التي لم يفصح عنها إلى أمراض عضوية أقساها فقده لمهارة المشي فبدأ كالمشلول القدمين.. نعم، تيبست قدماه وانهارت كل آماله وآلامه دون أن يشعر به أحد.
(4)
استند مرة على الجدار وهو ينظر ويستمع إلى معركة كلامية من والديه اللذين يجلسان في صالة الطعام. بلع عبرته وتنفس كل الهواء الموجود في المكان، واستدار إلى غرفته ولكنه في الطريق إليها سقط. فقدماه خيبتا ظنه، لم يستطع الوقوف. لم تتحرك قدماه. زحف على بطنه كمحارب مصاب حتى وصل غرفته.
في ظلام غرفته الدامس نظر إلى قدميه فلم يرهما. تحسس قدميه فلم يشعر بهما. سكب دموع سنة غسلت بعضاً من معاناته، ثم نام بجوار باب الغرفة من الداخل.
الساعة تشير إلى الثامنة صباحاً والصغير أحمد لم يستيقظ للمدرسة. فزعت أمه واتجهت إلى غرفة النوم لعلها تكسب الوقت.
(5)
الأم: استيقظ يا أحمد. فقد تأخرت عن المدرسة.
استجاب أحمد بتثاقل. تحرك قليلاً، نهض بجسمه للأعلى واتكأ على ظهره وقدماه ممددتان على السرير. تعجبت أمه من حركته الجسمية تلك، وعرفت أن في الأمر شيئاً.
الأم: ما الذي أصابك ياأحمد؟ أخبرني أنا أمك.
نظر أحمد إلى قدميه وأخذ يبكي. فقد عرف أنهما لم تعودا قادرتين على حمل جسمه المكتنز كآبة.
رفعت الأم وليدها الصغير لتتأكد من عجزه عن الحركة، وحاولت ذلك مراراً، وعندما تأكدت من عجزة بكت وذرفت دموع الندم والإهمال. كل شيء في الغرفة كان يبكي. وكل المكان حزين.
صرخ أحمد: «أريد أن أجلس وحدي. لا أريد أحداً معي»!
خرجت الأم تجرجر أذيال الحسرة والندم، وجلست على مائدة الطعام تواصل بكاءها، فالموقف الذي رأت فيه ابنها لا يحتمل سوى البكاء. كان طعام الغداء في نظر أحمد الذي أحضرته له أمه بمنزلة ورق الاسمنت وقطع من النايلون. أكل أحمد على مضض وأمه تحثه على الأكل.
(6)
اقتحم الأب غرفة ولده أحمد فوجد أن كل ما قيل له حقيقة. أحمد لا يقدر على المشي. أحمد حزين. أحمد كئيب. تنفس أبو أحمد بعمق وشعر أن ابنه أحمد أقرب ما يكون إليه كمثله في هذه اللحظة. ضمه بعنف وقال: «آسف. كنت بعيداً عنك. مشكلاتنا الزوجية أنستنا أن لنا ولداً اسمه أحمد».
(7)
بعد أيام سمع أحمد ضحكات والديه في صالة الطعام. نهض من فراشه واتكأ على قدميه بصعوبة. مشى قليلاً وكله لهفة على مشاهدة والديه وهما في سعادة. مشى حتى وصل إليهما. ضحك معهما. ثم راحت أمه في ابتهاج تحسب خطوات أحمد وهي تلهج قائلة: حمداً لك يا رب.
الموضوع الاصلي
من روعة الكون