بغداد حاضرة الدنيا وشاهدها
عَشِقْتُ بَغدادَ لَمّـا عشـتُ ماضيهـا
وهِمْتُ شرخَ شبابـي فـي مغانيهـا
وصُنْـتُ رَيِّقَهـا لمـا نَعُمْـتُ بـه
من مسِّ سوءٍ ومـن عيـنٍ تُعاديهـا
وقُلْتُ شعري على الشُّطْآنِ مُبْتَكِـراً
وطاوعَتني علـى المعنـى قوافيهـا
مـادَ النَّخيـلُ إذ الورقـا تُذَكِّرُنـي
أَيـامَ هـارونَ والنّعمـى تُوافيـهـا
وغَـرَّدَتْ فـوقَ أغصـانٍ بلابلُهـا
هَبَّ النّسيـمُ ومـادتْ فـي تَثنِّيهـا
تطاوَلَتْ وَزَهَتْ في ثـوْبِ عِزَّتِهـا
في حضنِ دجلةَ والمنصـورُ بانيهـا
وأنجبَتْ من رجالِ الحكمِ من صَعَدُوا
فوقَ الثُّرَيا وجاسـوا فـي أعاليهـا
وأمسَكوا الأرْضَ من أطرافِها وغَدَتْ
دارُ الخلافةِ أمْـنَ المحتمـي فيهـا
تعدو الجِيـادُ وقـد شَـدَّتْ أعِنَّتَهـا
أيدي الكُماةِ وفي الهيجـاءِ تُرْخيهـا
سيوفُهـمْ مُرهَفـاتٌ فـي أَكُفِّـهِـمِ
إذا تطاولَـتِ الأَعْـنـاقُ تَفْريـهـا
عُنْفُ الفُتُـوَّةِ مِـن هَبَّـاتِ معتصِـمٍ
ظَعِينَـةٌ فـي بـلادِ الـرّومِ يَفْديهـا
وحَرَّكَ الجيْشَ لَبّى صَوْتَ صارخَـةٍ
وأشعَلَ الأرضَ نيرانـاً بمـنْ فيهـا
ومِلْءُ جَفْنيْـكِ نومـاً فـي كَلاءَتِـهِ
يا أُخْتَ بغـدادَ إنَّ العـدْلَ راعِيهـا
تاريخُ بَغْدادَ فـي أحْضـانِ مكتبتـي
بينَ القماطِـرِ والجُـدْرانُ تحويهـا
وأنبتَـتْ ساسـةً دَوَّتْ علـى مَـلأ
أَصواتُهُمْ من فِجـاجِ الأرْضِ تأْتِيهـا
فيها رِجالٌ من الأفْـذاذِ قـدْ بَذَلـوا
جُهْداً جَهيـداً علـى أيـامِ ماضيهـا
في البَحْثِ والعِلمِ والتاريخِ كم كَتَبُوا
وفي التَّراجِمِ شَـدَّ القَـوْسَ باريهـا
ودَوَّنُـوا لُغَـةَ الفُصْحـى مُشافَهَـةً
بينَ المضارِبِ سيْـراً فـي بَواديهـا
وأَصَّلوا الفِقْـهَ إذ أرْسَـوْا قواعِـدَهُ
وحَقَّقُـوا السُّنَّـةَ السَّمْحـاءَ تَنْزِيهـا
يا ويْحَ نَفْسي وعِشْقـي لا يُبارِحُهـا
بيـنَ الجوانِـحِ واللوْعـاتُ تذكيهـا
وفاضَتِ العَيْـنُ رَقْراقـاً مَدامِعُهـا
أَكادُ مِـنْ زَفَـراتِ القَلْـبِ أُخْفيهـا
ثـمَُّ انْثَنَيْـتُ ونفسـي لا تُطاوِعُنـي
بَلَوْتُ من زَفرَتي الحـرَّى مآسِيهـا
أَرْثـي الخِلافَـةَ أمْ أنْعـى مَآثِرَهـا
ولا مَآثِـرَ فـي الدُّنيـا تُضاهيـهـا
أَبعْدَ هذا بُغـاثُ البَعـثِ تَحْرُسُهـا
واستَنْسَرتْ وبَغَتْ هَوْنـاً وتسْفيهـا
خانتْ قَوادِمُها مـا كـانَ يَعْضِدُهـا
وأسْلَمَتْها علـى البَلْـوى خَوافيهـا
دارَ السَّـلامِ سَلامـاً لا يُضارِعُـهُ
حُمّى الحِمـامِ ولا أحـزانُ باكيهـا
والعَيْـنُ ساخِنـةٌ ينْهَـلُّ ساجِمُـهـا
وفاضتِ الـرُّوحُ إلاّ عَـنْ تراقيهـا
والنفسُ واجِمـةٌ قـد ثـارَ لاهِبُهـا
أَمْواهُ دَجْلـةَ مـا كـادتْ لِتُطْفيهـا
مَنْ لِلْعِراقِ وقدْ عاثَ العُلـوجُ بـه؟
ومَنْ لبغْدادَ يـومَ الـرَّوْعِ يَحْميهـا؟
مَـنْ لِلخِلافـةِ إِذ غابـتْ معالِمُهـا
وأَظْلَمَ الكَـوْنُ واشْتَـدَّتْ عَواديهـا؟
مَنْ يرفَعُ الرايـةَ السَّـوداءَ خافِقَـةً
شَريعةَ اللهِ في الأمصـارِ يُحْييهـا؟
سَهِرْتُ لَيْلي لأَرْوِي قِصَّـةً كُتِبَـتْ
بِدَمْعِ عَذراءَ كـادَ الحـزنُ يَذويهـا
كم مِثلَ هاتيكِ يا بغدادُ قـدْ قُطِعَـتْ
أَوْصالُهـا فَتَنـاءَتْ عـن أهاليـهـا
لكنَّهـا مـا اسْتَهانَـتْ دونَ عِفَّتِهـا
ولا اسْتَكانَـتْ لِضَيـمٍ إنْ يُدانِيـهـا
يا أُخْتَ دَجْلـةَ لا تَخْشَـيْ نوازِلَهـا
يا بِنْتَ بَغـدادَ إنّـي لَسْـتُ ناسيهـا
مدَّتْ يدَيْها إلى الأقْصـى تخاطِبُـهُ
وَفِي جِنيـنَ تُلاقِـي مَـنْ يواسِيهـا
كِلْتاهُما مُسْتَغيـثٌ صـاحَ واشَرَفـي
وأَطلَقَتْ ثـمَّ واغَوْثـاهُ مِـنْ فِيهـا
فأَيُّ قَلْبٍ وَعَـى مِقْـدارَ مِحْنَتهـا؟
وأَيُّ أُذنٍ لِــذي عَــزمٍ تُلَبِّيـهـا
لَوْلا الخِيانـةُ مـا كانَـتْ قَذائِفُهُـمْ
ولا الصَّواريـخُ بالنّيـرانِ تُصْلِيهـا
ولا البَوارِجُ ، أمْ كانَ الخليـجُ لهـا
ممهّـداً ولَمًـا الأوغــادُ تأْتيـهـا
ولا السويسُ، وهذي مِصرُ خانِعَـةٌ
قدِ اسْتُبيحَتْ علـى هَـوْنٍ مَوانيهـا
نَسَجْتُ مِن مُقْلَتي عصماءَ ذاتَ شذىً
ومِنْ شُغـافٍ إلـى بغـدادَ أُهديهـا
مـا قُلْتُهـا للتّغَنِّـي والفَخـارِ بهـا
لكِنْ لأُفْرِغ عَزمِـي فـي مَطاويهـا
ورائِدُ القَـومِ حَقّـاً ليـسَ يكْذِبُهُـمْ
تِلكَ الحقيقةُ عنـدَ النُّصـحِ يجْليهـا
فيها نِـداءٌ لِمَـنْ شُـدَّتْ عزائِمُهُـمْ
إلـى الجِهـادِ فمَـنْ لبَّـى مُناديهـا
بَغـدادُ حاضِـرَةُ الدّنيـا وشاهِدُهـا
عبرَ القـرونِ لهـا دانـتْ أَعاديهـا
لَمَّا بَناها بنـو العَبَّـاسِ كـانَ لَهُـمْ
فَضْلُ العُمومةِ واسْتَعْلَـوا بِـهِ تيهـا
أُرومَةُ المصطفى أَكْرِمْ بِـهِ شَرَفـاً
ما إنْ تَرى مِـنْ أُرومـاتٍ تُدانيهـا
قادوا الجحافِلَ حتـى دانَ مَشْرِقُهـا
وغَرَّبـوا ومهـادُ الأرضِ تَطْويهـا
كم مِنْ كَميٍّ له في الحرْبِ مَعْلَمَـةٌ
ونفْسُـهُ فـي سبيـلِ اللهِ يَشْريـهـا
لقَدْ وَقَفْنـا علـى فْينّـا نُحاصِرُهـا
وتِلْكَ باريسُ كُنّـا فـي ضَواحيهـا
أَيامُنـا تِـلـكَ أَيــمُ اللهِ عـائـدَةٌ
ونَجْمَعُ الأرضَ قاصِيهـا لِقاصيهـا
فالحرْبُ مُعْلَنَةٌ والسّاحُ فـي سَعَـةٍ
والخيْـلُ زاحِمَـةٌ تعلـو نواصيهـا
هذي الملايينُ فـي شَـوقٍ تَرَقَّبُهـا
لمّـا استهـانَ بِخَلْـقِ اللهِ باغيـهـا
بـوشٌ وأوْبـاشُـهُ فاللهُ يَقْصِمُـهُـمْ
ونَنْقُصُ الأرْضَ بالأَطـرافِ نأتيهـا
لَمْ يَدْرِ أنّ المنايـا فـي انتظارِهِـمُ
والمَوْتُ في خُطُواتٍ كـان يَمْشيهـا
جُيوشُهُـمْ وقَـدِ اغْتَـرَّتْ بِقُوَّتِـهـا
غُرورُها سَـوفَ يُشْقيهـا ويُرْديهـا
فهلْ جَنَيْتُـم وُرُوداً مِـنْ حَدائِقِهـا؟
أم هَلْ وَجَدتُم قُبوراً فـي أراضِيهـا
لَم يَدرِ أنّ بني الإسلامِ قَـدْ لَمَسُـوا
عُقْمَ السّياسـةِ مِمّـن كـان يُمليهـا
وأَدْرَكُـوا أنّ حُـكْـمَ اللهِ يُنْقِـذهُـمْ
مِنَ الأعادي ومَـنْ مِنْهُـمْ يُواليهـا
إنّ الخِلافَـةَ يـا بَـغـدادُ عـائِـدةٌ
لكنَّما القُـدْسُ بعـدَ اليـومِ تُؤْويهـا
ويَصْدُقُ الوَعدُ والأَقْصـى نُخَلِّصُـهُ
ويَظْهَـرُ الدّيـنُ والأَبعـادُ يَطْويهـا
الشاعر
فـتحـي سلـيــم
الموضوع الاصلي
من روعة الكون