من غرائب وعجائب ما وجدت في بطون كتب الأدب ( خطبة واصل بن عطاء ) التي تجنب فيها حرف الراء , فقد كان به لثغة في هذا الحرف , ومع هذا فقد كان خطيباً مصقعاً لا يشق له غبار , وقد كان يحتال على حرف الراء فيتكلم بما شاء دون أن يأتي بكلمة فيها حرف الراء !!!
ومن ذلك خطبته هذه التي بدأها وأنهاها بأبلغ عبارة وأقوى دلالة ولم يرد فيها حرف الراء إطلاقاً .
يقول واصل :
الحمد لله القديم بلا غاية , والباقي بلا نهاية , الذي علا في دنوه , ودنا في علوه , فلا يحويه زمان , ولا يحيط به مكان , ولا يؤوده حفظ ما خلق , ولم يخلقه على مثال سبق , بل أنشأه ابتداعاً , وعدله اصطناعاً , فأحسن كل شيء خلقه , وتمم مشيئته , وأوضح حكمته , فدل على ألوهيته , فسبحانه لا معقب لحكمه , ولا دافع لقضائه , تواضع كلّ شيءٍ لعظمته , وذل كل شيء لسلطانه , ووسع كل شيء فضله , لا يعزب عنه مثقال حبه وهو السميع العليم , وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا مثيل له , إلهاً تقدست أسماؤه , وعظمت آلاؤه , علا عن صفات كل مخلوق , وتنزه عن شبه كل مصنوع , فلا تبلغه الأوهام ولا تحيط به العقول ولا الأفهام , يُعصى فيحلم , ويُدعى فيسمع , ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون , وأشهد شهادة حق وقولَ صدق بإخلاص ونية , وصدق طوية , أن محمد بن عبدالله عبده ونبيه , وخالصته وصفيّه , ابتعثه إلى خلقه بالبينات والهدى ودين الحق فبلغ مألكته ( أي رسالته ) , ونصح لأمته , وجاهد في سبيله , لا تأخذه في الله لومة لائم , ولا يصده عنه زعم زاعم , ماضياً على سنته , موفياً على قصده , حتى أتاه اليقين , فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى , وأتم وأنمى , وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه , وخالصته ملائكته , وأضعاف ذلك , إنه حميد مجيد .
أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله والعمل بطاعته , والمجانبة لمعصيته , فأحضكم على ما يدنيكم منه , ويزلفكم لديه , فإن تقوى الله أفضل زاد , وأحسن عاقبة في معاد , ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخُدعها , وفواتن لذاتها , وشهوات آمالها , فإنها متاع قليل , ومدة إلى حين , وكل شيء منها يزول , فكم عانيتم من أعاجيبها , وكم نصبت لكم من حبائلها , وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها , أذاقتهم حلواً , ومزجت لهم سماً .
أين الملوك الذين بنوا المدائن , وشيدوا المصانع , وأوثقوا الأبواب , وكثفوا الحجاب , وأعدوا الجياد , وملكوا العباد , واستخدموا التلاد , قبضتهم بمخالبها , وطحنتهم بكلكلها , وعضتهم بأنيابها , وعاضتهم عن السعة ضيقاً , ومن العز ذلاً , ومن الحياة فناءً , فسكنوا اللحود , وأكلهم الدود , وأصبحوا لا تعاين إلا مساكنهم , ولا تجد إلا معالمهم , ولا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم نبساً . فتزودوا عافاكم الله فإن أفضل الزاد التقوى , واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون . جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه , ويعمل لحظة وسعادته , وممن يستمع القول فيتبع أحسنه , أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .
إن أحسن قصص المؤمنين , وأبلغ مواعظ المتقين كتاب الله , الزكية آياته , الواضح بيناته , فإذا تلي عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تهتدون .
أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي , إن الله هو السميع العليم , بسم الله الفتاح المنان ( قل هو الله أحد , الله الصمد , لم يلد , ولم يولد , ولم يكن له كفواً أحد ) .
نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم , وبالآيات والوحي المبين , وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم , وأدخلنا وإياكم جنات النعيم , أقول ما به أعظكم , وأستعتب الله لي ولكم … أهـ
فكم من كلمة وردت في هذه الخطبة العجيبة لها كلمة مرادفة واسعة الانتشار ولكن فيها حرف الراء , فترك الكلمة تلك واستعاض عنها بكلمة ليس فيها حرف الراء .
وكم من آية يريد الاستدلال بها , ولكن فيها حرف الراء فيلجأ إلى ذكر معنى الآية دون الإتيان بلفظها .
مـنـقـول
الموضوع الاصلي
من روعة الكون