قصة ملف المستقبل
سطع البرق في قوة، في تلك الليلة من ليالي الشتاء القارصة، وانعكس ضوؤُه على جسم "س – 18"، الذي يقف ثابتاً جامداً، كتمثال من الصلب، أمام حجرة العناية المركَّزة، التي يرقد فيها "نور"، غائباً عن الوعي، بعد صراعه العنيف مع ذلك المسخ مزدوج المخ، الذي كاد يقضي على الفريق، وعلى كوكب الأرض كله ذات يوم..
ومع هزيم الرعد، الذي أعقب سطوع البرق، انتفض جسد طبيب قسم العناية المركَّزة، واتسعت عيناه على نحو عجيب، وهو يحدِّق في الآلي الصامت، قبل أن يقول لرفيق سهرته، في صوت حمل ارتجافته:
- هل سيبقى هذا الشيء هنا إلى الأبد؟!
تطلَّع رفيقه بدوره إلى وجه "س – 18" الأخضر، وعينيه الحمراوين بلون الدم، وملامحه القاسية الجامدة، وغمغم في خفوت، وكأنما يخشى أن يسمعه:
- رجال الأمن أنفسهم لا يجرءون على طرح هذا السؤال، وإدارة المستشفى تقول: إنه يحمي سيِّده "نور"، حتى يستعيد وعيه.
أطلق الأوَّل زفرة عصبية، وهو يلقي نظرة أخرى على "س – 18"، قبل أن يدير عينيه إلى الشاشة الكبيرة، التي حملت منحنيات المتابعة المستمرة، لكل المؤشرات الحيوية لـ"نور"، ويغمغم:
- لا أحد يمكنه أن يعلم متى سيحدث هذا.. كل شيء يشير إلى أن حالة المقدِّم "نور" مستقرة وثابتة، منذ تم نقله إلى هنا.. ولو أردت رأيي الشخصي، فطوال سنوات عملي كطبيب، في وحدات العناية المركَّزة، لم أشهد حالة واحدة، استعادت وعيها، بعد غيبوبة عميقة كهذه.
تجاوز الثاني ببصره "س – 18"؛ ليلقي نظرة على جسد "نور" نفسه، ثم تمتم في توتر:
- ولكنهم يقولون: إنه قد فعلها من قبل.
لوَّح الأوَّل بيده، قائلاً:
- هذا يقلِّل من احتمالات عودته أكثر؛ فالمصادفات العجيبة كهذه، لا يمكن أن تحدث مرتين، في جيل واحد.
هزَّ الثاني كتفيه، مغمغماً:
- من يدري؟!
انعقد حاجبا الأوَّل، وهو يقول في صرامة:
- العلم يدري.
تطلَّع إليه الثاني لحظة، ثم نقل بصره إلى "نور"، وإلى "س – 18"، قبل أن يتمتم:
- ربما.
لم يكد ينطق كلمته هذه، حتى وثب المنحنى الخاص بإشارات مخ "نور" وثبة مباغتة، عاد بعدها إلى مساره الطبيعي..
وبكل انفعال الدنيا، هبَّ الثاني من مقعده، وأشار إلى شاشة الرصد، هاتفاً:
- هل رأيت هذا؟!..
اتسعت عينا الأوَّل، في توتر شديد، وقفزت أصابعه تضغط أزرار الكمبيوتر، لاستعادة المنحنيات، قبل أن يحدِّق فيها بدهشة عارمة مغمغماً:
- ما الذي يعنيه هذا بالضبط؟!
أجابه الثاني في انفعال، وهو يلتقط جهاز اتصال خاص:
- عقله يتلقَّى اتصالاً ما.. هذا ما تعنيه هذه القفزة.
ردَّد الأوَّل ذاهلاً:
- اتصال؟!.. مستحيل!
ثم استدار إلى الثاني، مستطرداً في حدة:
- ماذا تفعل بالضبط؟!
أجابه الثاني، وهو يضغط أزرار جهاز الاتصال:
- إنها الأوامر.. لابد وأن نجري اتصالاً فورياً بالمخابرات العلمية، عند أوَّل لمحة غير مألوفة، في حالته هذه.
تضاعفت حدة الأوَّل، وهو يقول:
- خطأ.. لابد وأن نتبيَّن الموقف أوَّلاً.. ماذا لو أقمنا الدنيا وأقعدناها، ثم تبيَّن أن كل هذا مجرَّد خلل في الأجهزة، بسبب العاصفة الكهربية، أو..
فجأة، وقبل أن يتمّ عبارته قفزت مؤشرات مخ "نور" قفزة ثانية..
ثم ثالثة..
ورابعة..
وانتفض جسدا الطبيبين، مع القفزة الخامسة، وهتف الأوَّل، في انفعال جارف:
- أجرِ اتصالك بالمخابرات العلمية.. فوراً.
كان يهتف بكل قوته..
ولكن زميله لم يجر الاتصال..
بل، ولم يفعل أي شيء آخر..
لقد تجمَّد في مكانه تماماً، وهو يحدِّق فيما أمامه، بكل ذهول وذعر الدنيا..
فعلى شاشة رصد المؤشرات الحيوية، ارتفع مستوى إشارات مخ "نور"، إلى درجة مدهشة..
إلى أقصى درجة يمكن للجهاز إظهارها..
أو تحديدها..
ومع أزيز متصل، أعلن الجهاز عدم استطاعته بلوغ درجة الإشارة، التي يبعثها مخ "نور"..
وعلمياً وطبياً، كان هذا يتجاوز الحدود..
كل الحدود..
بلا استثناء..
* * *
في وقت واحد تقريباً، توقَّفت ثلاث سيارات، في ساحة الانتظار، للمستشفى العسكرى، وقفز منها الدكتور "سمير"، المدير الجديد لمركز الأبحاث التابع للمخابرات العلمية، و"سلوى"، و"أكرم"..
وعند مدخل المستشفى، التقى الثلاثة، وهتفت "سلوى"، وهي تلهث من فرط الانفعال:
- هل بلغكما الخبر مثلي؟!.. هل تدركان ما يعنيه؟!
أجابها "أكرم" في حماس:
- يعني أن "نور" يوشك على استعادة وعيه.. أليس كذلك؟!
هتف رئيس مركز الأبحاث الجديد:
- لا يمكنك الجزم.
كانت الأمطار تهطل في غزارة، والبرق ما زال يسطع في السماء، عندما بلغ ثلاثتهم قسم الرعاية المركَّزة، وفوجئوا بوجود الدكتور "حجازي" هناك، وهو يقول في توتر:
- لقد توقَّفت تلك الإشارات.
سألته "سلوى" بكل انفعالها:
- ماذا تقصد يا دكتور "حجازي"؟!
أشار كبير الأطباء الشرعيين إلى شاشة رصد معدلات "نور" الحيوية، وهو يجيب في أسف:
- كانت حالة نشاط مخي فائق محدود، استغرقت ثلاثين ثانية فحسب، وبعدها عاد كل شيء إلى ما كان عليه، وعادت إشارات مخ "نور" ترسم منحنيات بالغة الضعف، كما تفعل منذ أكثر من شهر كامل.
بدا الإحباط وخيبة الأمل على وجوه ثلاثتهم، وغمغم الدكتور "سمير":
- يبدو أنه كان أملاً أجمل من أن يتحقَّق.
انعقد حاجبا "أكرم" في شدة، وكأنما لم ترق له العبارة، في حين حدَّقت "سلوى" في المنحنيات التي سجلتها الشاشة، وقفزاتها المتوالية، مغمغمة:
- عجباً!
ضاقت عيناها، وكأنما تتبيَّن أمراً ما، فسألها الدكتور "حجازي" في اهتمام:
- هل ترين شيئاً؟!
غمغمت في توتر:
- بل أشياء.
التفت إليها "أكرم"، في اهتمام عصبي، في حين اعتدلت هي، وشدت قامتها، وهي تقول:
- هل يمكنني الحصول على نسخة، من هذه المنحنيات الرقمية؟!
أجابها الدكتور "حجازي" في سرعة:
- لست أظنهم يمانعون منحكم إياها، ولكن لماذا؟!
أجابته في عصبية:
- لأن دراستها هي تخصصي الأوَّل يا دكتور "حجازي"، ولأن الراقد أمامكم، في غيبوبة عميقة، لم تمنع انطلاق تلك الإشارات القوية من مخه، هو زوجي، والرجل الذي لم أحب سواه، منذ عرف قلبي الحب.
سألها "أكرم" في توتر:
- هل تعتقدين أنه بإمكانك التوصُّل إلى شيء ما، بوساطة هذه المنحنيات؟!
ألقت نظرة طويلة أخرى على المنحنيات الفائقة، التي لا تتناسب قط مع موقف "نور"، وغيبوبته العميقة، قبل أن تغمغم:
- نعم.. أعتقد هذا.
سطع البرق عقب كلماتها، ثم دوى الرعد في قوة، أضافت إلى الموقف المزيد من الرهبة والتوتر، وخاصة مع انعكاس وميض البرق على وجه وجسم "س – 18"، الذي بدا في تلك اللحظة أكثر قسوة وجموداً، مما جعل الدكتور "سمير" يغمغم في عصبية:
- يبدو أنني لن أعتاد هذا المشهد أبداً.
غمغم أحد طبيبي غرفة العناية المركَّزة، في توتر شديد:
- نحن لم ننجح في هذا قط.
وقال الآخر في عصبية:
- ولم نعد حتى نحتمل وجود هذا الشيء هنا.
انعقد حاجبا الدكتور "سمير"، وهو يغمغم:
- ليس من المفترض أن يكون هنا.
أطلَّت صرامة واضحة، من ملامح "أكرم" وصوته، وهو يقول:
- وعلى الرغم من هذا، لست أنصح بمحاولة زحزحته من مكانه.
مطَّ الدكتور "سمير" شفتيه، وهو يقول في عصبية:
- أعلم هذا.
نقلت "سلوى" بصرها بينهم جميعاً، وتوقَّفت بضع لحظات، عند جسد زوجها "نور"، الغارق في غيبوبة عميقة، وسط الآلات الإلكترونية والرقمية، قبل أن تقول في صرامة:
- في كل الأحوال.. هل يمكنني الحصول على نسخة المنحنيات؟!
التقى حاجبا أحد الطبيبين بمنتهى الشدة، في حين قال الآخر في توتر:
- فوراً يا سيِّدتي.
تحرَّك في سرعة؛ ليطبع المنحنيات الرقمية، على أسطوانة مدمجة عالية الكثافة، في حين قال الدكتور "سمير"، بتوتره المعهود:
- أتعشَّم أن يوصلنا هذا إلى تطوّر ما.
لم يعلِّق أحدهم على عبارته، وإن تركزت عيونهم جميعها على جسد "نور" الساكن، قبل أن يغمغم "أكرم" في توتر:
- كم أتمنى لو أعلم ما يدور في أعماق غيبوبته العميقة هذه!
لم يكد يتم عبارته، حتى أطلقت "سلوى" شهقة متوترة، جعلتهم يلتفتون إليها جميعاً، و"أكرم" يمسك مقبض مسدسه بحركة غريزية، فهتفت، وهي تشير إلى الشاشة:
- لقد حدث مرة أخرى.
هتف بها أحد الطبيبين في لهفة:
- ما الذي حدث؟!
أجابته بصوت مرتجف، من فرط الانفعال:
- المنحنيات المخية قفزت بغتة.
ارتفعت عيون الجميع، تحدق في المنحنى المرتفع الحاد، الذي بدا واضحاً على الشاشة، وغمغم الدكتور "سمير":
- هناك شيء ما يحدث.. شيء لا يمكننا فهمه.
استدارت إليه "سلوى" بحركة حادة، قائلة في حزم:
- حتى هذه اللحظة.
سألها الدكتور "حجازي" في حذر:
- ماذا تعنين؟!
رفعت عينيها بكل حزمها، إلى شاشة رصد المعدلات الحيوية، وهي تجيب:
- أعني أن ما رأيته بعيني الآن، يحتم عليَّ ألا أبرح هذا المكان، قبل أن أجد تفسيراً للموقف.
ثم استدارت إلى الدكتور "سمير"، مستطردة:
- سأنقل كل أجهزتي إلى هنا، وأرصد كل تغيُّر، مهما صغر شأنه، في موجات عقل "نور"، أو…
قبل أن تتم عبارتها، وثبت منحنيات إشارات "نور" المخية وثبة جديدة..
وثبة توافقت مع سطوع البرق، وأعقبها هزيم الرعد، الذي انتهى بصوت "س – 18" المعدني الآلي الجاف، وهو ينطق العبارة الوحيدة، المسجَّلة في برنامجه الآلي:
- "س – 18" في خدمتك يا سيِّدي..
واتسعت عيون الجميع عن آخرها..
فذلك التطوّر الأخير كان يعني الكثير..
والكثير جداً..
"نور استعاد وعيه؟!..".
هتف القائد الأعلى الجديد، للمخابرات العلمية المصرية بالعبارة، بكل دهشة الدنيا، وهو يتطلَّع إلى الدكتور "سمير" في لهفة، ولكن هذا الأخير هزَّ رأسه نفياً، وهو يقول:
- هذا ما أوحى به الأمر في البداية، مع تلك الوثبات، من النشاط المخي المتقطِّع الفائق، الذي سجلته أجهزة القياس الرقمية، ومع تلك الاستجابة العجيبة لذلك الأطلنطي الآلي، والتي بدا فيها وكأنه قد تلقى أمراً من "نور"، إلا أنه، وعلى الرغم من هذا، لم يحرِّك ساكناً، أو يقم بأية حركة، يمكن أن تفسِّر عبارته.
التقى حاجبا القائد الأعلى الجديد، وهو يتراجع في مقعده، ويدير الأمر كله في رأسه، قبل أن يتساءل في اهتمام، وبصوت بدا وكأنه يتحدَّث به مع نفسه:
- ما الذي يمكن أن يعنيه هذا؟!
أجابه الدكتور "سمير" في سرعة:
- خبراؤنا يقولون إنه نوع من الاحتقان المخي، الذي يؤدي إلى حدوث طفرات نشاط غير متوقَّعة، و..
قاطعه القائد الأعلى في صرامة:
- ألديهم دليل علمي على هذا؟!
صمت الدكتور "سمير" بضع لحظات، قبل أن يجيب في توتر:
- ليس بعد.
انعقد حاجبا القائد الأعلى، وهو يقول في صرامة:
- لا يمكننا الاعتماد على نظريتهم إذن.
قال الدكتور "سمير" في عصبية:
- لا بد من وجود تفسير ما.
أجابه القائد الأعلى قبل حتى أن تكتمل عبارته:
- بالتأكيد.
وازداد انعقاد حاجبيه، وهو يضيف، بكل صرامة الدنيا:
- ولكننا لم نتوصَّل إليه بعد.
في نفس اللحظة، التي نطق فيها عبارته، كانت "سلوى" قد انتهت من توصيل أجهزتها بشاشة الرصد الحيوي الخاصة بزوجها "نور"، ثم استقرَّت على مقعد صغير، وهي تقول في توتر:
- الآن، يمكننا أن نلتقط أية تغيرات، مهما بلغت ضآلتها، وتحليلها؛ للبحث عن تفسير علمي ومنطقي لها.
حمل صوت "أكرم" كل قلقه، وهو يقول:
- "سلوى".. أنت تحتاجين إلى الراحة.. شحوب وجهك يشف عن إجهادك الشديد.
هزَّت رأسها، قائلة في إصرار:
- لقد قضيت ليلتين متواصلتين، إلى جوار ابنتي "نشوى"؛ بسبب الآلام التي لم تفارقها، منذ موقعتنا الأخيرة، مع ذلك المسخ.
قال في قلق أكثر:
- هذا يعني أن الراحة أصبحت حتمية، وأن استمرارك قد يعني انهيارك التام، في أية لحظة.
كان محقاً تماماً في قوله؛ فقد تثاقلت عيناها، واكتنف الصداع رأسها، وسرت في جسدها كله ارتجافة غامضة، كادت تلتهم عقلها كله، إلا أنها قاومت كل هذا في إصرار، وهي تقول، في شيء من الحدة:
- فليكن.
وازدردت لعابها في صعوبة، قبل أن تضيف، وهي تتطلَّع في أسى إلى جسد زوجها "نور"، الفاقد الوعي في عمق:
- لن أتركه وحده، في ظروف كهذه.
قال "أكرم"، في إشفاق عصبي:
- "نور" في حجرة عناية مركزة يا "سلوى"، ومتطلبات الحياة والعمل تجبرنا على تركه وحده معظم الوقت، و…
تكملت القصة
خُيِّل إليها أن كلماته تتلاشى في بطء، وتسقط في بئر سحيقة بلا قرار، وأن جفنيها يتثاقلان، ويتهدلان على عينيها، و..
وفجأة، بدا لها وكأن "نور" ينهض..
يستيقظ من غيبوبته العميقة، ويعتدل على فراشه، ثم يدور في بطء، ليجلس على طرفه..
وخفق قلبها في عنف..
خفق..
وخفق..
وخفق..
وعلى الرغم من أن "أكرم" يقف على بعد خطوات قليلة منها، ومن أن طبيبي قسم العناية المركَّزة يجلسان في طرف حجرة المتابعة، فإنها شعرت وكأنها قد انفصلت تماماً عن العالم المحيط بها، ولم تعد ترى سوى "نور"..
"نور"، الذي انتزع كل الأسلاك المتصلة بجسده، والتي تربطه بأجهزة الرصد الحيوية الرقمية، ثم هبط من الفراش، واتجه في بطء وهدوء، نحو الحاجز الزجاجي، الذي يفصل وحدة العناية المركَّزة، عن قسم المتابعة..
وبكل لهفة وانفعال الدنيا، أرادت "سلوى" أن تصرخ..
أن تبتهج..
أن تخبر كل من حولها بما حدث..
والعجيب أن أحداً سواها لم ير ما حدث…
أو ينتبه إليه..
أو حتى يشعر به..
بدا الكل منشغلا بأمور أخرى..
أمور مختلفة..
و"نور" يقترب من الحاجز الزجاجي..
ويقترب..
ويقترب..
ولم تستطع هي أن تصرخ..
أو تبتهج..
أو تنطق حتى حرفاً واحداً..
لقد انعقد لسانها في حلقها، وعجزت عن النطق، ولم تستطع قول كلمة واحدة..
كل ما فعلته هو أن راحت تحدِّق في "نور"، وقلبها يخفق..
ويخفق..
ويخفق..
ثم انتبهت فجأة إلى أن "نور" ليس كما عهدته..
كان فيه شيء يختلف..
يختلف كثيراً..
وانعقد جاجباها في شدة، وهي تحاول تحديد ذلك الاختلاف..
و"نور" يقترب أكثر..
وأكثر..
وأكثر..
ثم فجأة، انتبهت هي إلى ذلك الاختلاف..
وانتفض جسدها كله..
وبمنتهى العنف..
فـ"نور"، الذي يتقدَّم ببطء وجمود عجيبين، من الحاجز الزجاجي السميك، الذي يفصلها عن حجرته، لم يكن هو "نور" الذي عرفته، وتزوجته، وأحبته طويلاً..
لقد كان مسخاً آخر..
مسخاً له رأس مشقوق مزدوج، و..
"سلوى.. هل رأيت هذا؟!..".
انتزعتها عبارة "أكرم" المفعمة بالانفعال، من كل مشاعرها، قبل أن يضيف بكل توتره:
- لقد قفزت المنحنيات مرة أخرى.
فتحت عينيها، قبل أن تكتمل عبارته، وحدَّقت فيما أمامها، بكل ذعر وذهول الدنيا..
وهنا فقط، أدركت أن كل ما رأته، على الرغم من وضوحه الشديد، كان مجرَّد كابوس..
كابوس سيطر على كيانها كله..
وحتى النخاع..
فقد كان "نور" يرقد على فراشه، فاقد الوعي، محاطاً بالأسلاك وأجهزة الفحص، و"س – 18" يقف أمام باب حجرته، كتمثال قاسٍ، في حين راحت منحنيات إشارات المخ على الشاشة تتقافز..
وتتقافز..
وتتقافز..
وبكل توتر الدنيا، تساءل أحد الطبيبين:
- ما الذي يحدث هنا بالضبط؟!
مع قوله، نقلت "سلوى" بصرها في سرعة، إلى شاشة أجهزتها الخاصة، التي تراصت عليها مجموعات من البيانات، في تعاقب مدهش، جعلها تغمغم:
- مستحيل!
تشبَّث "أكرم" بالحاجز أمامه، وهو يسألها في انفعال:
- ما المستحيل؟!
رفعت عينيها المذعورتين إليه، وهي تقول مرتجفة:
- تلك الإشارات لا تنبعث من عقل "نور".
تعلَّقت عيون الكل بها، في لهفة قلقة متوترة، وهي تتابع:
- إنها تأتي إليه.
بُهت الكل لقولها، في حين حاولت هي أن تزدرد لعابها في صعوبة، مع إضافتها:
- وبقوة تتجاوز كل الحدود… على الإطلاق.
وهوى قلب "أكرم" بين قدميه..
بعنف.
* * *
الموضوع الاصلي
من روعة الكون