محمد عليه الصلاة والسلام يضحك، نعيش معه ضاحكاً، كما عشنا معه وهو باكٍ متأثر خاشع لله عز وجل-.
من الذي أضحكه ؟ إنه الله الواحد الأحد، (وأنه هو أضحك وأبكى) [النجم: 43 ].
وماله لا يضحك عليه الصلاة والسلام ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح؟.
لقد عشنا معه عليه الصلاة والسلام في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه وينجرح فؤاده، ونعيش معه وهو يهشّ للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مجريات أمورهم وأحاديثهم.
إن بعض المنتسبين للدين والذين لا يعرفون المعنى الحقيقي للتدين ,إذا إلتزم على حد قوله فإنه يمنع نفسه من الضحك , ظناً منه أن الدين عبارة عن تكشير وعبوس وغضب وجدية أبدية ا، يقول أحدهم: ما ضحكت منذ أربعين سنة. لكن الإمام الأعظم، والقائد الأكمل يضحك في مواطن من حياته.
وضحكه ، له مقاصد، ضحك نافع، يربى بالبسمة، ويدرّس بالضحك، ويعلم بالمزحة. فتعالوا ننظر إلى أحاديثه عليه الصلاة والسلام
روى أحمد في المسند بسند صحيح، والبيهقي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام، ركب حماراً له يدعى يعفور، رسنُه من ليف، ثم قال: ((اركب يا معاذ))، فقلت: سر يا رسول الله، فقال: ((اركب، فردفته)).
من هو الراكب؟، إنه محمد الذي أخرج البشرية من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، يركب الحمار، ويردف خلفه تلميذاً نجيباً من تلامذته.
قال معاذ: فردفته، فصرع الحمار بنا.
سقط الحمار، وسقط النبي ، وسقط معاذ - فماذا فعل النبي ؟.
قال معاذ: (فقام النبي يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً.) قام يضحك.. رسالته مليئة بالبسمة، والبشرى، والرحمة لكل إنسان، يفيض على محبيه بشاشة، ويقربهم من السعادة بكل صورها، يقول جرير بن عبد الله: والله ما رآني رسول الله إلا تبسم في وجهي.
قال معاذ: فقام النبي يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً فعل ذلك الثانية، والثالثة، فركب، وسار بنا الحمار، فأخلف يده، فضرب ظهري بسوط معه أو عصا ثم قال: (( يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد؟)) فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال: ثم سار ما شاء الله، ثم أخلف يده، فضرب ظهري، فقال: (( يا معاذ، يا ابن أم معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (( فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؛ أن يدخلهم الجنة))[اخرحه احمد وروى بعضه البخاري ومسلم].
ويضحك مرة أخرى، روى الترمذي، وأبو داود، بأسانيد صحيحة، عن علي بن ربيعة قال: شهدت علياً، وأتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: ((بسم الله))، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ).[الزخرف: 13 - 14]. ثم قال: الحمدلله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله، من أي شيء ضحكت؟ قال: ((إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلمُ أنه لا يغفر الذنوب غيري))[ابو داوود والترمذي ، وقال : حسن صحيح].
فالرسول يضحك لأن هذه الأمة تعرف ربها، وتتوجه إليه بالدعاء ليغفر ذنوبها، فيضحك النبي رحمةً لهذه الأمة، وفرحاً لأن الله عز وجل يغفر الذنوب لكل من استغفر وتاب.
ضحك حتى بدت نواجذه
ويضحك، أيضاً كما في صحيح مسلم، فقد روى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام،" أن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل مقبل بوج إلى النار، فيقول: أي رب، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها[آذاني] وأحرقني ذكاؤها [لهبها] فيدعوا الله ما شاء الله أن يدعوه، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت ذلك أن تسأل غيره؟، فيقول لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله، فيصرف الله وج عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، لا تسألني غير الذي أعطيتك؟، ويلك: ابن آدم ما أغدرك!.
فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت أن أعطيك ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك، يعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة، انفهقت [انفتحت] له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، أدخلني الجنة فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت؟، ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: أي رب، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله، حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه فإذا ضحك الله منه، قال: أدخل الجنة، فإذا دخلها، قال الله له: تمنّه، فيسأل ربه ويتمنى حتى إن الله ليذكّره من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله تعالى: ذلك لك ومثله معه ".
قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله، قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله.
قال ابن مسعود: لقد رأيت رسول الله ، ضحك حتى بدت نواجذه[البخاري ومسلم].
هذه عقيدة ربانية ينبغي الإيمان بها، يضحك الرب تبارك وتعالى، وإذا ضحك، أذن لهذا العبد في دخول الجنة، وأعطاه مثل أعظم ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أمثاله، وهذا أدنى أهل الجنة منزلة، فما بالك بأعلاهم منزلة!.
وإنما ضحك الرسول من طمع العبد، ومن نقضه لميثاقه مع ربه، ومن رحمة أرحم الراحمين.
ضحك متعجبا
ويضحك الرسول أيضاً يأتيه حبر من أحبار يهود فيقول له: يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع،والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله تعجباً مما قال الحبر، تصديقاً له، ثم قرأ: ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمار يشركون) [الزمر: 67] [البخاري ومسلم]
وإنما ضحك عليه الصلاة والسلام لأمور:
منها: أن القرآن صدق ما قاله هذا الحبر من أمور القيامة.
ومنها: أن اليهود يعلمون صدق النبي وصدق ما أخبر به، ثم يكذبون على الله، ويكذبون رسوله .
ومنها: التعجب من قدرة الباري تبارك وتعالى.
ومنها: أن العبد مهما بلغت عبوديته لله تعالى، فإنه لا يستطيع أن يوفي الله عز وجل حقه، وغير ذلك من المعاني.
يضحك ممازحا ومواسيا أبا هريرة
ففي هذا السياق، وفي هذا الباب، معنا حديث صحيح متصل، أخرجه الإمام البخاري، في باب: كيف كان عيش النبي وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، من كتاب الرقاق، ذكر مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل.
ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي.
عرف النبي أنه يحمل سراً من الأسرار، عرف أن له حاجة، فتهلل في وج متبسماً.
تراه إذا ما جئته متهلّلاً كأنك تُعطيه الذي أنت سائله!!
فقال: يا أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، ومضى، فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانة، قال: أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: - أي أبو هريرة وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل، ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتته صدقة، بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتت هدية، أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة، أتقوى به، ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله بدٌ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح، فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله، وسمى، وشرب الفضلة.
فالنبي كان يتبسم، لأنه يعلم ما يدور في نفس أبي هريرة، لقد تعرض لأبي بكر وعمر، من أجل أن يشبع فما شبع، ثم تعرض للرسول فأدخله البيت، ورأى اللبن وقلّته، ثم هو يأمره بأن ينادي أهل الصفة، فتتداعى كل هذه المعاني، أمام عينيه ، فيتبسم. ولكنه يريد أن يعلم أبا هريرة، ويعلم الأمة من ورائه مبدأ الإيثار، وتفقد الآخرين، والسؤال عن المساكين، فكان ضحكه ومداعبته، سلوى للمحرومين، وتسلية للمظلومين، وتصبيراً للمعدمين.
إن قوماً عاشوا معه، رأوا ابتسامته، وتحيته، ويسره، وسهولته، فتمنوا أن يفقدوا الآباء والأمهات والأبناء والأنفس، ولا يشاك هو بشوكة.
إن جيلاً رباه المصطفى على هذه المعالم، وهذه التعاليم، لجديرٌ بأن يفتح المعمورة، وتدين له الدنيا كلها.
وإذا قارنا بين هذه الصور المشرقة، وبين صور طغاة الأرض، فترى الواحد منهم عليه من الكبر والجبروت والظلمة، ما يجعله بغيضاً إلى النفوس.
لقد رأينا ورأيتم كثيراً من هؤلاء الطغاة ، وقد قيل عنهم: إنه ما رؤى أحدهم متبسماً أبداً، فهؤلاء نحاكمهم إلى المعصوم، ، وهو يضحك، ونأتي بهم ونوقفهم أمام التاريخ، تاريخ محمد ، ونسألهم أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وفي رعاياهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم كان يضحك.
الموضوع الاصلي
من روعة الكون