حمامٌ يطير
رأت وداد أن تصعد السطح بسبت الغسيل كي تنشرالملابس ككل صباح ، أحكمت من وضع الإيشارب حول رأسها ، وقفت أمام المرآة ، تعدل من هيئتها . لم تكن بحاجة إلى بودرة أو طلاء شفايف ، فهي حلوة وإن لوحت الشمس بشرتها بسمرة خفيفة ، فقط مدت يدها وأخرجت خصلة شعر صنعت هلالا أشقر على جبهتها ، أحضرت المشابك من الصالة ، قالت الأم مفيدة بلهجة آمرة : لا تتأخري . أنشري وانزلي على طول .
احتضنت سبت الغسيل ، وراحت تغني صاعدة ، ويدها تمسك بدرابزين السلم في لهفة : " ياما القمر ع الباب .. نور قناديله .. ياما أرد الباب ، ولا أنادي له ؟! " عند العتبة الأخيرة لمحت قطا أرقط ينسل في هدوء من باب السطح الموارب ، ذعرت قليلا ، لكنها ما لبثت أن أخفت خوفها في ضحكة مجلجلة جعلت القط يتوقف برهة ويمسح فروه الناعم في الحائط الأبيض المطلي بالجير ، وهو يرمقها في استغراب .
زغللت الشمس بصرها حين واجهت السماء بزرقتها المنعشة ، فأغمضت عينيها ، فتحتها بصعوبة ، ونظرت ناحية السور القريب ، لم يكن هناك بالداير الخشبي ، فقط الحمام يهدل بالداخل ، والأعلام مطوية في الركن القريب ، هذا معناه أنه لن يأتي اليوم ، انقبض قلبها ، ولم تعاود الغناء ، فجأة حطت حمامتان على حافة السور . كانت تعرفهما جيدا ، من النوع الهزاز الذي يربيه غريب
، معنى هذا أنه قد أتى وانصرف . شعرت أنه هناك ويعد لها مفاجأة ، تورد وجا من جديد ، وانبثق الدم ، لكنها رأت القط يعود من الباب ويقفز قفزة هائلة ، ثم يمضي في الاتجاه المضاد . ثمة عصافير تمرق فوق رأسها ، وسحابات واهنة تمضي في كسل كأنها تؤدي واجبا ثقيلا ، فالوقت صيف ، وهي تتجه للجنوب حيث الهواء يدفعها أمامه بفتور عجيب .
كادت تنتهي من نشر قطع الغسيل ، لم يبق في يديها سوى بدلة أبيها الميري الزرقاء سائق القطار ، بقطعة النحاس المثبتة على الصدر . سألت نفسها، والقلق يعتصر قلبها : ماذا لو لم يأت غريب؟ هو أخبرها أمس أن الست والدته وخالته محاسن وعمه محروس سيزورنهم اليوم . هل حدث في الأمر شيء ؟
يكاد القلق يقتلها ، وهي تلقي ببصرها ناحية الداير ، حدست : نعم لعله ذهب العمل مبكرا هذا الصباح . حين كلمت أمها الحاج مصيلحي عن زوار قادمين لرؤية البنت ، شوح بيده : بنت أيه ؟ دي لسه عيلة !! ولم يكمل الطعام فقد سُدت نفسه ، لكنه جلس على الكنبة القديمة المهترئة المطلة على شباك عريض يفضي إلى الطريق يحصي بأصبعيه السنين . كل قطارات الدنيا صفاراتها تدوي في أذنه هذه الساعة : هل كبرت ابنته حقا وصارت عروسا؟!
لقد انهت لتوها دبلومها الفني ، وأتعبتهم في دروس خصوصية جعلتهم على البلاط . لكنه لم يشعر بها إلا طفلة . طفلة مفعوصة بضفيرتين حتي عامين مضيا ، وان كانت قد طال عودها بعض الشيء . صاح بصوت يغلب عليه وهن خفيف : الشاي ياام وداد .
لحظات ورأى البنت قادمة بصينية عليها الشاي في كوب بنور يحبه من أيام كان عريسا . نظر لابنته ، وكأنه يراها لأول مرة ، كانت عروسا فعلا ، واكتشف أن صدرها يعلو قليلا في بروز كاشف ، وان وجنتيها توردتا وهي تضع الصينية بين يديه : الشاي ياابا.
أجلسها إلى جانبه ،منذ زمن بعيد لم يفعل ، وسألها : مفيش أخبار عن الوظيفة يابنتي؟
جلست وهي تحدق في منمنمات السجادة النبيتي الحائلة والتي طوت عشرين عاما من زواج أبيها سائق القطار بأمها الطيبة التي لم تسمع لها صوت سوى كلمة واحدة : حاضر يا أخويا . هل يكون غريب حنونا وحازما كأبيها ؟ إنها تحب هذا الأب وتخشاه ، وهي تعرف أن الوظيفة لم تكن هي السؤال المقصود .لكنها ردت : أبدا وحياتك . كانت نبرة مستعطفة فيها رجاء حار أن يطوي رفضه ويوافق . أعاد تأمل وجا ، ومرت سحابة زمن استعادها طفلة شقية بالفستان "الكلووش " تلعب في الزقاق ، وتنط " الأونة " ، ثم تقفزالحبل ، وهو ينهرها أن تصعد لأن المساء يوشك أن يحل .لم يجد فارقا كبيرا بين طفلة الأمس وفتاة اليوم . تململت قليلا مع صمت الأب ، وما لبثت أن جاءت الأم ، وفتحت الموضوع : اسمع ياحاج . البنت كبرت والعرسان على الأبواب ، واحنا مش عايزين نطير العريس اللي جاي . ماحدش ضامن ييجي غيره!!
سألها بحدة ، وحسم : يعني عارفاه ، وموافقة . نظرت الأم ناحية وداد ، وتلعثمت : اسأل بنتك !
في هذه اللحظة اندفعت البنت من مجلسها على الكنبة : عن أذنكم ، ألم الغسيل . استوقفها الأب : عايزاه ياوداد . أحنت رأسها بنصف نعم خجلى ، وهنا ابتسم الأب بحنان ظن أنه قد نساه : ماشي ، بكرة يشربوا القهوة عندنا .
لم تشعر بنفسها إلا وهي تطوي السلالم ، وقلبها يكاد يقف من فرط فرحتها . كان غريب يقطع السطح المواجه جيئة وذهابا ، منتظرا قرار الأب ، سألها بلهفة : ما الأخبار ؟ هزت رأسها بنصف نعم المتبقية ، وهنا لم يشعر بنفسه إلا وهو يقفز فوق السور العالي ، ويمسك يديها يلثمها ، والدموع تطفر من عينيه . ردته إلى الواقع في جفاء مصطنع : أبويا صعب ، وصي الست أمك تكون متهاودة في الكلام .
قال وهو يرمقها بحب يكاد يفيض من قلبه الفرح : قعدة الرجالة أنا وابوك وعمي محروس . الحريم للزيارة يافالحة .
هي الآن قد انتهت من نشر آخر قطعتين ، ولم يظهر ، قلبها يعتصره انقباض مخيف ، ودت أن تبكي ، لقد انخرطت في البكاء فعلا ، ولم تشعر إلا ويد سمراء معروقة تمسح الخصلة النافرة : القمر بيبكي ليه ؟ حبست الباقي من دموعها : أتأخرت ليه ؟ أنا مخصماك .
زفر متعبا والعرق يتفصد من جبهته ، والحمام كان قد خرج من أقفاصه وراح يستعد لدورانه الصباحي الجميل : ياست كنت باشتري الجاتوه ، والشيكولاتة .. بلاش؟!
ردت بغضب، وهي تبعد يده : تقوم تسيبني . من أولها هتهرب .
غشيت سحابة حزن وج : ياما كان نفسي ابويا يكون موجود معانا اليوم ده .
مسدت شعره : الرحمة على أموات المسلمين . تركت يدها لدموع قليلة تفر من مقلتيه ، وكان عليها أن تستجيب لصوت الأم ، وهي تنادي عليها بعتاب ولوم : وداد .. أتأخرت يا عروسة !
القاهرة 8/8/2004