الطيبة .. الخبث ..
المسالمة .. العدوانية ..
الصفاء والنقاء .. الحقد والحسد ..
الخير .. الشر ..
ثنائيات مترسخة في ذهن الإنسان .. تراكمت عبر الأزمان المديدة التي عاشها الإنسان
على هذه الأرض .. تكلم عنها كثيرا .. وكتب فيها مرارا .. وانتشرت بين الناس ،
وتناقلتها الأجيال المتتابعة ..
يا ترى ! .. ما هو الشر ؟ .. ما هو الخبث ؟ .. ما هو الحقد ؟ ..
صدقوني .. حاولت أن أهضم هذه المعاني ، فلم أستطع ..
الخير .. المسالمة .. الصفاء .. هذه معاني يسهل فهمها واستيعابها .. لأنها معاني
تدور حول الجمال ، المنطق ، النظام ..
أما الشر ! .. الحقد ! .. الخبث ! .. فهي لا تدل إلا على الفوضى .. اللا نظام ..
اللا منطق .. اللا معنى .. اللا هدف ..
عندما تقول : فلان خبيث ... طيب اشلون خبيث ؟! ..
يعني هل هذا الخبث صفة فيه ملازمة له منذ أن وُلد إلى هذه اللحظة التي وصفته فيها
بالخبيث ؟ .. هل هذا الخبث أصل فيه لا يمكن أن يتغير أبدا في المستقبل ؟ .. هل هو
جين وراثي ورثه عن آبائه ؟ ..
والسؤال المهم هو .. هل كان يقصد أن يتخابث ؟ ..
الشرير أو العدواني عندما يعمل عملا اتفق العقلاء ( إن كان هناك اتفاق ) على أنه شر
أو عدوان أو خبث ، هل كان يقصد هذا الخبث أو هذا الشر أو هذه العدوانية ؟ ..
مثلا ... شخص وُلد فقيرا معدما ، وعاش في كنف أسرة ضعيفة ثقافيا وفكريا وسلوكيا (
بسبب الفقر ) ، ونشأ في مجتمع ظالم قاس ومتناقض ، وبالإضافة إلى ذلك ضعيف حضاريا
وثقافيا ..
وهو آدمي من بني البشر .. إنسان ضعيف ويحب الاستمتاع .. يريد مالا و مواردا ليستمتع
بها في هذه الحياة البائسة ، كما يستمتع بها ذلك العبد الصالح الغني ..
وكلما أراد أن يبني أحلامه ، تناوب عليه لصوص أحلامه ، من لصوص الدولة الذين يأكلون
الأخضر واليابس ، إلى الرأسماليين ( الإقطاعيين الجدد ) الذين يتلذذون بامتصاص دماء
المجتمع حتى آخر قطرة ، إلى أولئك المتشيخين المتمزهدين الذين ما يفتأون يزعجون
أسماع بمعاني كالزهد والاتجاه للآخرة هي فاضلة أساسا ولكنهم شوهوها بسلوكياتهم
البعيدة عن ما يطلبونه من الناس ..
بالله عليكم .. شخص مثل هذا يعيش في بيئة كهذه يملؤها الفقر والظلم والجهل ( تعليم
سيء وتثقيف معدوم ) ، ما الذي تتوقعونه منه ؟ ..
هل تلومونه عندما يغش في الامتحان بغية النجاح والاجتياز بسرعة ؟ .
هل تلومونه عندما يرشي أحدهم ليضمن له وظيفة محترمة ؟ ..
هل تلومونه عندما يُطنِّش عمله ليستفيد من وقت العمل في أعمال أخرى مربحة ؟ ..
هل تلومونه عندما يتاجر بالتأشيرات ؟ ..
هل تلومونه عندما يخدع غيره ويبيعه بضاعة بثمن أعلى مما تستحقه ؟ ..
عندما تنطفئ الابتسامة والبشاشة من وج ، هل كان يقصد العبوس في وجه الناس ؟
عندما تخشوشن أخلاقه ويجف طبعه ، هل كان يقصد أن ينفر الناس عنه ؟ بل هل هو يكره
الناس ؟
من هو الملام هنا ؟ .. هل الملام هو ، أم المجتمع ، أم الدولة ؟ ..
ولو برّأناه تبرئة تامة ، هل نلوم المجتمع ؟ .. هل نلوم الدولة ؟ ... كيف ؟! ..
أليس المجتمع - أو الدولة - هو مجموعة أفراد مثلهم مثل صاحبنا هذا ؟ ..
ألم يكن لكل فرد من المجتمع أو لكل مسؤول في الدولة حياتهم الخاصة ونشأتهم الخاصة
وتربيتهم الخاصة وظروفهم الخاصة التي جعلتهم بهذه الصورة ؟ .
إذن نلوم من ؟ ..
لا نلوم أحدا ؟! ..
إذن نفي اللوم هذا هو نفي للشر وللخبث ... أليس كذلك ؟ .
اللوم يكون لأفراد أو جماعات صدر منها ( أو يتوهم ذلك ) فعل سيء ( عرفا ) .. والشر
والخبث من الأفعال السيئة .. إذن نفي الملامة عن أحد هو نفي لوجود الشر أو الخبث ..
إذن أين هو الشر ؟ .. وأين هو الخبث ؟ ..
لم لا ننظر إلى الشرير أو الخبيث ( بحسب العرف ) بموضوعية وإنصاف ؟ ..
لم نعتبره جرثومة أو ميكروبا لا بد من التخلص منه فورا ؟ ..
الشرير أو الخبيث ( كما نتوهمه ) إنسان .. بشر من لحم ودم .. له أحاسيس ومشاعر ..
وله جوانب خيرة ..
لا يمكن أن يوجد شرير لا يحمل بعض الصفات الخيرة ..
ولا يمكن أن تكون صفاته السيئة باختياره هو .. اختيارا حرا مبني على علم بالصفة
الخيرة المقابلة ..
الإنسان مجبول على الخير .. مولود على الفطرة .. والفطرة هي الخير ..
الشر ( أو الفعل السيء ) نتيجة وليس أصلا .. هو نتاج للظلم والجهل والفقر الذي
ينتشر في المجتمع .
وهذا الظلم .. وهذا الجهل .. وهذا الفقر .. لا يمكن أن يحمل مسؤوليته أفراد معينون
( كالمسؤولين مثلا ) .. إنما الكل مشترك في صناعتها ..
لذلك ، حتى تقلل من هذا الشر ، لا بد أن تقلل من الظلم ، وترفع مستوى العلم
والثقافة ، وتسد حاجة الناس للأمان والاطمئنان ( من مسكن ودخل ثابت ) ..
ولا يمكن ذلك إلا بزيادة جرعة الخير في الناس .. لتتجه اتجاهين ..
الاتجاه الأول ، بناء النفس .. " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "
..
والاتجاه الثاني ، العمل المتقن لصالح المجتمع حبا في المجتمع .. ولا يمكن الإتقان
إلا في ظل التثقيف عالي المستوى .. ولا يعيش الحب في جو من التعصب والجاهلية والعنف
تحياتي
الموضوع الاصلي
من روعة الكون