تنتشر الازدواجية بشكل كبير في المجتمعات التي تقمع الرأي، ولا تتسع آفاقها لاستيعاب الآراء المختلفة، واحترامها، بل قد يكون الأفق في بعض المجتمعات أضيق من سَمِّ الخياط، يريد أن يسود فيه رأي واحد، وأن يكون جميع أفراده على هذا الرأي، وكأنهم ليسوا بشرا، كأنهم مسامير يجب أن تخرج من مصنع واحد بنفس العرض والطول والشكل..
والبشر ليسوا مسامير، والمجتمع ليس مصنعاً، ومن الخير ألا يكون مصنعاً، البشر خلقهم الله عز وجل مختلفين في عقولهم وأفهامهم وآرائهم، في أنماط شخصياتهم ومحاضن تربيتهم، في أذواقهم وميولهم ونظرتهم للأمور..
فإذا لم يستوعب المجتمع تلك الحقيقة، وأصرَّ على قمع الآراء، وتدجين البشر، والحجر على العقول، والتحكم في الاذواق والميول، والفرض على شخصيات الناس أن تكون على مقاس واحد، ونمط متشابه، ورأي لا يتغير، فإن الذي يحدث - في مثل هذا المجتمع - خروج ظاهرة (الازدواجية) بشكل واسع..
00 فيقول الكثيرون ما لا يعتقدون.. ويعملون ما لا يقولون.. ويلبسون الأقنعة، ويمثلون..
بل إن كثيراً من هؤلاء الذين أصابهم داء الازدواجية لكي يسايروا المجتمع، يصابون بهذا الداء في أعماقهم، ويصبح ملازماً لهم، وخصلة من خصالهم، حتى في حياتهم الخاصة، ومع أسرهم وأصدقائهم - إلا في النادر - لأن الإنسان ابن عوائده، ولانه يتشكل بقدر ما يكرر السلوك والعمل تكراراً كثيراً..
وهنا تخرج (الازدواجية) من مجرد مسايرة المجتمع إلى أن تفَرِّخ في نفس صاحبها ميلاً سيئاً نحو النقد غير السليم - حين يستطيع - وإلى أن يطالب الآخرين بما ليس فيه، ويطلب منهم ما لا يحققه لنفسه، ولا يحققه لهم، يصبح الكيل بمكيالين خصلة وسجية عند كثيرين..
فترى الأب يطالب أولاده بالمثالية وهو أبعد ما يكون عنها، ويبدو أمامهم بشخصية لا صلة لها البتة بشخصيته الحقيقية، فيصيبهم بالتعقيد، ويزرع فيهم بذور الازدواجية منذ الصغر، فهم لا يستطيعون أن يكونوا صريحين معه، ولا واضحين امامه، فقد تعلموا من سلوكه، ومن مبدأ العقاب والثواب لديه، أن يقوموا بالتمثيل أمامه، ويبدو له كما يريد - جهد استطاعة الممثل والمتكلف - فاذا خلوا إلى أنفسهم مارسوا ما يريدون، وقالوا ما يشاءون..
٭ ٭ ٭
وإذا كان الرجل قد نشأ في مجتمع يزرع الازدواجية في الأعماق، ويلزمها الفرد أي الزام، فإن هذا الرجل كثيراً ما يصبح مزدوجاً مع زوجته، فإن أحبها لم يظهر لها حبه خشية أن تصاب بالغرور، أو أن يفقد السيطرة عليها، وإن ناقشته في مطالبها لم يقل لها الحقيقة، ولم يناقشها بوضوح وصراحة، بل انه يلف ويدور، يريد أن يخلص من وجع الرأس بالأعذار الواهمة أو الوعود الكذوب..
إن الشخصية الازدواجية - مع الزمن والممارسة الطويلة - تبرع في التمثيل ولبس الأقنعة (البس لكل حالة لبوسها) والتحول من الضد إلى الضد، فهو مع الذين أقوى منه خاضع مساير مجامل، وهو مع الذين يقوى عليهم مستبد صارم يريد أن ينفذوا ما يريد دون نقاش، لعل هذا نوع من التعويض والاسقاط النفسي، وهو في مجمل الأحوال يدل على أخلاق الإنسان الحقيقية..
فإن لكل إنسان جوهراً وطبعاً، وقد يمثل ويتكلف ولكن جوهر أخلاقه يظهر في تعامله مع مَنْ هم دونه قدرة، أي مع الذين يقدر عليهم وله عليهم سلطة، مثل مرؤوسيه وصغاره وزوجته وخدمه، فإذا عامل الإنسان من هم دونه بخلق كريم، وانصاف وتفهم، فإن أخلاقه جيدة، أما إذا عاملهم باستبداد وفرض عليهم ما يريد ولم ينصفهم بل ربما احتقرهم، فهو انما يدل على سوء أخلاقه وفساد طبعه، وما حُسْنُ خلقه مع رئيسه ومَنْ هو فوقه إلا ازدواجية كاذبة ونفاق في نفاق.. إن أخلاقه الحسنة - المزيفة - أمام رئيسه أو أمام من يحتاج هو إليه، أو شكله العام أمام المجتمع - كما يرسمه - انما هو (رد فعل) وليس (فعلاً) وانما هو (تكلف) وليس (طبيعة) وانما هو كذب وتمثيل وليس (حقيقة).. حقيقة هذا الإنسان - وكل إنسان - تظهر حين يتعامل مع من هم دونه، ومن له سلطة عليهم، فإن كان تعامله معهم راقياً دل على أن أخلاقه راقية.. وإن كان تعامله معهم مجحفاً قاسياً سيئاً دل على سوء أخلاقه وفساد طويته وطبعه مهما تكلف أمام الناس وأمام الاقوى منه..
إن من طبيعة الإنسان رجلاً كان أو امرأة، والمرأة أكثر في هذه الناحية، الاهتمام بالشكل حين الخروج، ولكن ليس إلى درجة التفريط أمام الزوج بحيث لا تفكر في أناقتها أمامه، فهذه ازدواجية سيئة ونفاق اجتماعي على حساب السعادة الشخصية..
كذلك يقال عن الرجل المرح مع أصدقائه، والذي يعاملهم باحترام شديد، ولكنه في بيته عابس قاطب، لا يحترم مشاعر زوجته وصغاره، انه نوع من ازدواجية الغباء فمثل هذا يخلق الشقاء في بيته ولا يجد السعادة، من لا يجد السعادة في بيته فلن يجدها في مكان آخر،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «شر الناس ذو الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه»فكيف بمن وج القبيح لاهله؟».
إن صاحب الازدواجية الكريهة له في أعماق نفسه رأي لا يسر، وكفى بهذا بؤساً،
انه يبيع رأيه في نفسه لرأي الآخرين - من البعيدين والمهيمنين عليه -
رأيهم فيه.. هذا هو همه.. وهذا يوصله إلى (احتقار الذات)..
٭ ٭ ٭
إن الازدواجية تشبه إلى حد كبير (الرياء) وهو موجود في الدين والتعامل، ومذموم بل انه يحبط العمل وقد سمَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم «الشرك الأصغر»..
فاذا كان الإنسان يتظاهر بالدين لينال رضا الناس ومكاسب أخرى تأتيه منهم فهو المرائي اللئيم الذي حبط عمله وانقلب وبالاً عليه..
فالرياء مصطلح شرعي وهو التظاهر بعبادة الله دون اخلاص بل لينال اعجاباً أو مغنماً.. والازدواجية تشمل المرائين وهم الاسوأ على الاطلاق، ولها أنواع اخرى من التعامل مع الناس بعدة صور ووجوه، كالنفاق الاجتماعي الذي يختلف عن المجاملة المطلوبة، فالنفاق يضر الذي تنافقه، أما المجاملة فتنفع ولا تضر ، والنفاق هدف صاحبه نفع نفسه وضر الذي ينافقه ، والمجاملة نوع من التشجيع لا يضر ولا يضر، ويحسن علاقة الناس بالناس، فهي أمر لابد منه بعض الأحيان..
٭ ٭ ٭
إن الازدواجية حين تنتشر في المجتمع وبين الناس، تختفي معها القيم الإنسانية
الأصيلة، وتموت المواهب والآراء الفذة، وتصبح الحياة قلقة، وقد يصاب
المجتمع كله بازدواج الشخصية..
ها هل لك فى الازدواجية
ام انت صاحب قيم اصيلة
ام لك مواهب واراء فذة
الموضوع الاصلي
من روعة الكون