الحياة، سماها البعض لعبة، و سماها الآخرون حقيقة، و غيرهم من تجاهلها. و هناك من عاشها، و هناك من ماتها.. أي مات و هو حي فيها.. ترى ما هي.. هذه الحياة التي نريد جميعاً أن نعيشها.. أهي إمرأة جميلة، أم ورود ببستان، أم طيور مهاجرة عبر محيطات عريضة، أم طفل يركض في باحة المدرسة.. ما هي.. أهي شيء ما نستطيع أن نجده لو بحثنا عنه.. أم أنها أعجوبة دفنت في كهوف أعمق المحيطات.. ما هذه الأسطورة التي أتعبت الباحثين و أنضبت أموال الأغنياء..أهي ابنتي التي أضمها لصدري لأشعر بطهارة الكون.. أم هي ابني المشاكس الذي لطالما " يستعير" ألعاب أخته ليداعبها مداعبة ثقيلة ثم يقول لها، بعد أن تبكي: "هذه هي الحياة" " that’s life" ....أهذه هي الحياة.. ظُلمٌ و ظُلمة.. أخٌ يمازح أختاً بما يراه هو مزاحاً و ما يجرحها.. أهي هكذا الحياة ؟؟ نقول دائماً عندما نُجرح أو نحزن أو عندما يخوننا الحظ :"هذه هي الحياة".. و كأن الحياة يجب أن تكون هكذا.. يجب أن تكون أسىً و ألماً و معاناة.. إن لم تجرح و تغدر فهي ليست الحياة.. ”life is not fair” " لا عدل في الحياة " دائماً نسمعها.. يَغْنَى الغني، و يفقر الفقير لأن لا عدل في الحياة.. أفقد ترقية في وظيفتي و ألوم الحياة، ينجح فلان في سوق الأسهم و لا عدل في الحياة.. يغدر الصديق صديقه و لا عدل في الحياة.. يموت من نحب و لا عدل في الحياة، يخون و يكذب من يهواهم قلبنا.. و لا نقول إلاّ هــــذه هــــي الحيـــــــــــــــــاة...
ما أنت يا أيتها الحياة؟ ما أنت يا أيتها الظالمة؟ ما أنت أيتها الكارهة الحاقدة القاسية التي سرقت مني أحبتي؟ و فرقتني عن أصحابي؟ من أنت؟ و أين أنت؟ و لم قررت بُداً عن كل الناس جرحي ؟ و ماذا تريدين مني؟ ماذا فعلتِ؟ و بعد هذه الأسئلة كلها، أأنـــت مَن فعلـــــــتِ؟
أبحث عنك في كل مكان و لم أجدك. سألت الحكماء.. فدلوني على حكيم يسكن في جزيرة بعيدة.. سافرت البحار بحثاً عنه فوجدته رجلاً شيجاً يعيش في كوخ وسط بستان من المشمش و الخوخ.. ضيفني من الخوخ و أجلسني بقربه.. " يا شيخي" ناديت بصوي خافت حياءً و ربما خجلاً من سؤالي.. لكن صوتي ملأه أمل عظيم بجوابٍ شافٍ منه.. " يا شيخي ما هي الحياة؟" نظر إلي طويلاً ثم ابتسم و قام من كرسيه الخشبي متكئاً على عصاه و خرج إلى البستان.. لحِقْتُه بلهفة.. قطف لي حبة خوخ و مسحها بطرف كُمَِه و ناولني إيَّاها.. هذه.. لا يمكن أن تقنعني أن الحياة هي حبة الخوخ هذه.. أشار بطرف يده إلى البستان.. لا لا لا تقل أن الحياة في البستان. فقد سمعت بهذه التفاهات مراراً و تكراراً.. الحياة في كل شيء جميل، الحياة في كل المخلوقات، الحياة حولنا في كل مكان... لن أقتنع بهذه التفاهات.. ابتسم مرّة أخرى لكن ابتسامته الآن كانت ابتسامة داكنة، رسمتها ريشة الشفقة و كأن هناك أموراً عظيمة أجهلها و لم أفهمها.. أحسست بالفشل.. و بدأ رأسي بالدوار.. ماذا يريد هذا الشيخ، سألته سؤالاً و لم يجاوبني و الآن بدأ يراوغ و يتلاعب بأعصابي، أكر.. بدأت حدة صوتي ترتفع و الآن كنت أحادثه دون أن أطيل النظر إليه، فقد بات الحديث إليه يزعجني و مع ذلك لم أذهب.. أريد جواباً و قد تكبدت عناءً لآتي إلى هذه الجزيرة و لن أرحل بدون جوابي.. "اخلدي إلى النوم يا ابنتي" .. أشار إليَّ إلى مكان أنام فيه الليلة.. أيقظني نور شمس الصباح الباكر.. خرجت و لَم أر الشيخ.. بحثت عنه في أنحاء و كان أمام البحر.. يمشي على الشاطىء حافياً، تقبل الأمواج أصابع قدميه و تنفخ الرياح شعرات لحيته.. "ماذا تفعل يا شيخي".. ابتسم و قال: "أعيش الحياة".."ماذا، تعيش الحياة!!".. أظنه هَرِم و لم يعد يعي ما بقوله.. عاد إلى تفاهات الحياة الموجودة حولنا.. مضى اليوم كله على هذا الحال.. و جاء غدٌ و أبحث عنه ثانية.. و إذا به يختفي في الغابات ليترك طعاماً لصغار بعض الطيور كانت قد قتلت النمور أمهم.. و أسأله: " يا شيخي، ماذا تفعل".. قال: "أعيش الحياة".. "و كيف تعيش الحياة.. هذه الحياة هي التي قتلت أم هذه الفراخ.. ألا تنقم على الحياة".. ابتسم و سكت و كأنّي لم أقل شيئاً..زاد غيظي و في لحظة تمنيت وضع هذا الشيخ على كرسي الإعتراف و الأضواء مسلطة عليه.. ما عدت أحتمل مماطلته.. فلربما كان لا يعرف و لا يريد الإعتراف بقصر علمه.. سأذهب و أتركه إلى تفاهاته، أجل سأتركه.. ظللت طوال الليل أفكر.. أين أنت أيتها الحياة.. حسناً.. سأظل هنا و لكن لن أعتمد على هذا الشيخ المخرف.. سأبحث بنفسي، لا بد أنه وجدها هنا عتى هذه الجزيرة.. في صباح اليوم التالي.. انطلقت إلى الشاطئ.. تركت الرمال ننخلل أصابع يدَي و الملح يحرق بشرتي.. أعترف أنني استمتعت بذلك، لكنني لم أجد الحياة.. و في اليوم التالي ذهبت بحثاً عن ذلك العش. و جدته بعد معاناة.. أطعمت الصغار.. أحسست بسكينة و هدوء لكنني لم أجد الحياة.. عدت إلى الشيخ في آخر النهار و يأكل الخوخ.. أخذت واحدة و أكلتها معه.. لكنني لم أجد الحياة في هذا الخوخ، لم يكن خوخاً سحرياً.. و أخيراً سألته بعد أن تعبت من البحث، " يا شيخي لقد أرهقتني الحياة و أنا أبحث عنها.. أين هي هذه الحياة.. لابد أنها تهابني فاختبأت جيداً.. أعترف أنها محنكة، فقد أضنتني بحثاً عنها و لم أجدها.. حتى أنني تابعت خطاك".. قال لي.." و عندما فعلت ذلك ماذا وجدتِ".. " لَم أجدها .. رأيت جمال الأمواج و سكيتة مساعدة الغيرلكنني لَم أجدها".. الشيخ:" أبقي مكان لم تبحثي" " لا" " بل بقي يا ابنتي".. أخذ خوخة من الإناء و قسمها بسكين حادة.. " هنا يا ابنتي.. لم تبحثي هنا.. لم تبحثي داخل الأشياء.. لم تبحثي داخل الخوخة و داخل البحر و داخل العش.. و لم تبحثي داخل قلبك".. فهمت.. قمت بسرعة من الكوخ.. و اتجهت الى الشاطئ ثانية، رأيته الآن.. رأيت الأمواج الزرقاء هائجة و الزبد يتناثر على الرمال.. رأيت الرمال تذوب تحت قدمَي، سمعت البحر يحاورني.. رأيته كما لم اره من قبل.. ذهبت إلى العش ثانية و رأيت الفراخ و قد بدأت ترفرف أجنحتها محاولة الطيران.. و من ثم عدت إلى البستان، لم ألاحظ أبداً أن هناك جدولاً صغيراً يغني بخرير ميا في البستان.. و لم ألحظ عظمة و عنفوان أشجار الخوخ و هي منحنية و كأنها تحمي شجيرات المشمش.. رأيت الشيخ العجوز كائناً حكيماً، جميلاً.. ابتسمت و قلت له.. " يا شيخي.. وجدتها، وجدت الحياة".. أشرت على قلبي.. ابنسمت.. لقد كانت الحياة محنكة فعلاً فقد اختبأت في آمن مكان على وجه الأرض، اختبأت في قلبي بين أضلعي، لتحتمــي بِــــيَ منـِّـــي.. لكنني الآن وجدتك.. ليس لأنك حولي، بل لأنك داخلـــي، معـــي، و جزء مني... فالحياة ليست الطيور أو البحر أو البستان.. الحيـــــــاة أنـــــــا .. و أنــــــا هي الحيــــــــاة.. حزمت أمتعي و شكرت الشيخ.. " إلى أين يا ابنتي".. ابتسمت و قلت له:" لأعيـــــــــــــــش الحيـــــــــــــــاة..
Fury of Fire
16-10-2007
الحمد لله زنة عرشه و عدد خلقه ومدااد كلماته و رضاء نفسه
الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
إذا أعجبكم الموضوع لا تنسونا من الدعاء
الموضوع الاصلي
من روعة الكون