مقتبس عن نزار قباني-
لماذا تصمتن أيتها النساء ؟
لماذا أكل القط ألسنتكنّ ؟
لماذا تنتظرن من يأخذ بثأركن ولا تأخذن ثأركن بأنفسكن؟
نحن الرجال لا نعطي شيئاً. نأكل البيضة وقشرتها.
ندّعي التحضر ونحن أكثر بدائية من ضباع سيبيريا .
ندرس في جامعات أوروبا ونعود أكثر توحشاً من الماو ماو .
نقدم الورد لعشيقاتنا وننشر رقبة شقيقاتنا بالمنشار.
نحن الرجال، نضع في فمنا السيجار ونتصرف بغريزة الجمل.
نتمشى مع صديقتنا في حديقة عامة وفي أعماقنا تصرخ الغابة.
نتحدث عن الحرية وفي داخلنا تصطك أبواب الحريم وتخشخش مفاتيحه وأقفاله.
نحن الرجال، خلاصة الأنانية وشهوة التملك والاقطاع.
نحن النفاق الذي يمشي على قدمين ، والوصولية التي تمشي على أربع .
فلماذا تسكتن علينا أيتها النساء. لماذا ؟ ..
منذ كان الرجل وهو يتحكم بكن ، بأقداركن ، بأجسادكن ، بعواطفكن ، بدموعكن ، بلذتكن ، بفراشكن ... منذ أن كان الرجل وهو يحتكر لنفسه كل شيء . يحتكر المعرفة والحكمة والذكاء والدولة والسياسة والتشريع والحب والشهوة. يحتكر حتى غطاء السرير..
الحرية جواد أبيض لا يستطيع ركوبه إلا الشجعان.
قلعة لا تفتح أبوابها إلا للمقاتلين.
العبودية سهلة. إنها جسد مشلول يتعاطى الحبوب المنومة.
أما الحرية فوجع أبدي لا يريح ولا يستريح.
ما دام جسد المرأة العربية مسيّجاً بالرعب والعيب والخرافة وما دام فكر الرجل العربي يمضغ كالجمل غلافات المجلات العارية ويعتبر جسد المرأة منطقة من مناطق النفوذ والغزو والفتوحات المقدسة، فلن يكتب لنا النصر أبداً. لأننا عاجزون عن الانتصار على أنفسنا.
نريد أن نخلّص جسد المرأة من المزايدات الأخلاقية والعنتريات . فالرجل الشرقي – وهذا أخطر ما في القضية – يربط كل أخلاقياته بجسد المرأة لا بأخلاقياته هو. فهو يكذب، ويسرق، ويزوّر ويقتل ويشلّح على الطريق العام ويبقى أطهر من ماء السماء حتى يعثر في درج ابنته على مكتوب غرام فيشدها من ضفائرها، ويذبحها كالدجاجة ويلقي قصيدة شعر أمام قاضي التحقيق.
******
هذه اليوميات وجدتها مخبوءة تحت حجر في حديقة منزل شرقي قديم.
كانت مكتوبة على أوراق دفتر مدرسي، وبخط عصبي نَزِق.. حتى لكأن الكلمات في تشنّجها أظافر حادة تمزق لحم الورق الأبيض وتنهشه..
ضممت على الأوراق يدي. كانت باردة ، مبتلة، لاهثة كعصفور لا وطن له طار ألف قرن تحت الثلج والمطر..
وفي غرفتي فتحت غطاء الكنز المسحور. وأوقدت ناراً .. وبدأتُ أقرأ.
ركضت على الحروف المشتعلة كأنني أركض على جسر من أعواد الكبريت.. كلما لمست عوداً تفجّر وفجّر غيره ..
وحين انتهى الليل شممتُ في حجرتي ... وفي ثيابي رائحة غريبة.. رائحة امرأة تحترق ....
ليس جديداً أن تحترق امرأة في هذا الشرق ... فنصف تراب صحارينا معجون برماد الضفائر الطويلة والنحور المطعونة..
ليس جديداً – في منطق السكين والفأس – أن تُذبح امرأة على سرير ولادتها.. أو سرير زفافها.. فنحن ندحرج رؤوس النساء كما ندحرج أحجار النرد في مقاهينا.. وكما نصطاد العصافير على روابينا..
قبل شهريار ، وبعد شهريار ، ونحن نغتال العصافير المؤنثة.. نسلخها، ونأكلها، ونمسح بدمائها شواربنا المهتزة كأذيال النسانيس..
لا جديد في تاريخ إرهابنا.
ولكن الجديد أن يثور المذبوح على ذابحه، والقبر على حافره..
الجديد أن يرفض الميت موته، وأن يعض الجرح على نصل الخنجر..
وهذا ما فعلته صاحبة هذه اليوميات.
إنها إحدى المصلوبات على جدار التاريخ والخرافة.
ولكنها تبدو – وهي على خشبة الصَلْب – أكبر من قيدها ومن مساميرها. وأقوى من جميع صالبيها..
إن بطلة هذه اليوميات تعرف أنها تُحتَضر ولكنها – مع دفتر يومياتها – تتفوق حتى على احتضارها.
الموت الصامت هو وحده الموت. أما الذين يثقبون بأظافرهم رخامات قبورهم ، ويكتبون شعراً.. على خشب توابيتهم.. فلا أحد يستطيع أن يهزمهم.
.. وبعد فهذه أوراق كتبتها امرأة لا اسم لها.. في مدينة لا اسم لها..
امرأة .. هي الأسماء جميعاً .. والمدن جميعاً ..
وأنا لم أفعل لهذه اليوميات شيئاً ، سوى أني أخرجتها من مخبئها الحجري .. ومسحت الغبار من أجنحتها .. ومنحتها الحرية.
- نزار -مع تــــــــــــحـــاتي00
الموضوع الاصلي
من روعة الكون