الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، يثيب بمنه وفضله على القليل كثيراً، والصلاة والسلام على من بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن موسم رمضان موسم عظيم لمن أراد النجاة وسعى إلى فكاك رقبته من النار، ففي هذا الشهر تتنوع العبادات، وتتضاعف الحسنات، وتتنزل الرحمات، ومن خصائص هذا الشهر العشر الأواخر منه التي كان النبي يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، فعن عائشة رضي الله عنها: { أن النبي كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيره } [رواه مسلم]. وفي الصحيحين عنها قالت: { كان النبي إذا دخل العشرُ شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله }. وفي مسند أحمد عنها قالت: { كان النبي يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمَّر المئزر }.
ومن الأعمال التي يعملها في العشر الأواخر: الاعتكاف..
والاعتكاف: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل، وهو من السُنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله ، قال الله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وعن عائشة رضي الله عنها: { أن النبي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده } [متفق عليه].
والاعتكاف من السُنن المهجورة التي قلَّ العمل بها وغفل عنها كثير من الناس، قال الإمام الزهري رحمه الله: (عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف مع أن النبي ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل). فبادر أخي المسلم إلى إحياء هذه السنة العظيمة وحث الناس عليها والترغيب فيها. وأبدأ بنفسك فإن الدنيا مراحل قليلة وأيام يسيرة، فتخلص من عوائق الدنيا وزخرفها ولا يفوتك هذا الخير العظيم، واجعل لك أياماً يسيرة تتفرغ فيها من المشاغل والأعمال وتتجه بقلبك وجوارحك إلى الله عز وجل في ذل وخضوع وانكسار ودموع لتلحق بركب المقبولين الفائزين.
أخي المسلم: الاعتكاف يكون في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ومن تخلل اعتكافه جمعة استحب له أن يعتكف في مسجد جُمعةٍ، فإن اعتكف في مسجد جماعة خرج إلى الجمعة ثم رجع إلى معتكفه. واحرص أخي المعتكف على أن يكون اعتكافك في مسجدٍ بعيدٍ عن كثرة الناس والإزعاج، واختر أحد المساجد التي لا تعرف فيها أحداً، و لا يعرفك فيها أحد، فإن هذا أحرى للإخلاص وَأَفْزَغُ لقلبك وذهنك من محادثة الناس وكثرة مجالستهم ومخالطتهم، وإن كنت ممن يعتكف في الحرمين الشريفين فتجنب التضييق على إخوانك المصلين وافسح لهم المجال لأداء الصلوات ولا تكن ممن يرغب أن يُظهر للمصلين اعتكافه حتى يسلموا عليه أو يفسحوا له ! وبعض المعتكفين لا يصلي أحياناً التراويح أو القيام مع المصلين ويشوش عليهم برفع الصوت في أحاديث لا طائل من ورائها.
والاعتكاف مسنون في أي وقت، فللمسلم أن يبتديء الاعتكاف متى شاء وينهيه متى شاء، إلا أن الأفضل أن يعتكف في رمضان خاصة العشر الأواخر منه، فإذا صلى فجر يوم الحادي والعشرين من رمضان دخل المعتكف ويمكث في المسجد حتى خروجه إلى صلاة العيد وهذا وقت انتهائه المستحب.
وهي فرصة عظيمة وساعات قليلة ؛ ليستفيد المسلم من هذا الانقطاع والبعد عن الناس، ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده ؛ طلباً لفضله وثوابه، وإدراك ليلة القدر.. من قبل أن تطوى الصحف وتوضع الموازين..
الموضوع الاصلي
من روعة الكون