حكايتنا التي سأقصها لكم هي قصة إنسانية تمتد جذورها في أعماق تاريخ التراث العربي ، وتحمل أحداثها حكمة خالدة ، وعبرة إنسانية عظيمة لا يمكن أن تموت أبدا ، فمن المعروف أن التراث الإنساني ملئ بالحكايات التي تحمل الكثير من القيم والعبر ، وهذه القصة تتضمن قيمة تربوية وخلقية حميدة تؤكد أن الوفاء قيمة عظيمة يفوح من ورودها دائما أريج المحبة
في إحدى المدن الكبيرة في روما القديمة كان يعيش تاجر ثري ثراء فاحشا لا حدود له ، وكان له نفوذ رهيب ، كان هذا التاجر مطاع الأمر من قبل الآخرين الذين كانوا يهابونه ، فقد كان يستطيع بفضل ثروته الكبيرة أن يفعل ما يشاء دون أن يُسائله أحد على ذلك ، لكن رغم ما منحه الله من ثراء ونعمة يحسده عليها كل الناس إلا أنه كان يملك قلبا قاسيا ، خاليا من الرحمة والشفقة ، لقد كان شديد القسوة على الآخرين ، ولا يملك في وجدانه وقلبه ذرة رحمة واحدة تجاه الذين يتعامل معهم أو الذين يعملون بإخلاص شديد في خدمته .
كان معروفا لدى الناس أن لهذا التاجر عادة سيئة ، كانت هذه العادة حديث الناس ومثار انتقاد له ، فقد اعتاد أن يشتري كل سنة جديدة خادما خاصا ليقوم على شئون خدمته ، فكان يقوم بإبقاء هذا الخادم في خدمته سنة كاملة ، وبعد أن تنقضي هذه السنة وتنتهي أيامها وشهورها كان الخادم يلقى نهاية مأساوية مرعبة وغير إنسانية ولا تتناسب مع ما قام به من خدمة وإخلاص ورعاية لسيده التاجر الظالم ، لقد اعتاد التاجر أن يلقي بخادمه المخلص إلى حلبة فيها مجموعة من الكلاب المتوحشة التي يقوم التاجر بتجويعها لعدة أيام لتفترس الخادم بكل شراسة
إن السبب الذي كان يدفع هذا التاجر قاسي القلب إلى القيام بذلك هو اعتقاده بأنه بهذه الطريقة المتوحشة إنما يحافظ على أسراره التي يكون الخادم قد عرفها أثناء فترة عمله في الخدمة ، ففي أحد الأيام وبعد أن تخلص التاجر من خادمه القديم ، قام بشراء خادم جديد ليقوم على خدمته ، وكان هذا الخادم متميزا عن غيره ممن سبقوه في خدمة التاجر فقد كان شديد الذكاء ، وكان يعرف العادة السيئة المشهورة عن سيده فقرر أن يعمل شيئا ينقذ به حياته ، وكان لهذا الخادم زوجة طيبة القلب ، أصابها الحزن الشديد بعد أن عرفت أن نهاية حياة زوجها ستكون بعد سنة من خدمته لهذا التاجر قاسي القلب .
• الزوجة / أنا لا ادري كيف وافقت على الخدمة عند هذا الإنسان الظالم الجاحد .
• الخادم / وهل كنت أملك أمر نفسي ؟ لقد تم بيعي لهذا التاجر قاسي القلب وعلي أن أتعايش مع ما قدره الله لي .
• الزوجة / المصيبة أنك تعرف النهاية المأساوية التي تنتظرك على يد هذا الرجل بعد مرور سنة من الآن ، ومع ذلك تتصرف وكأن الأمر لا يعنيك في شئ أبدا .
• الخادم / وما عساي أن أفعل يا زوجتي العزيزة ؟
• الزوجة / يجب أن تفعل شيئا لتنقذ به حياتنا من الدمار .
• الخادم / صبرا يا زوجتي العزيزة .. صبرا .
• الزوجة / ياالهي .. ما هذا الذي يحدث لي ؟ هل تزوجت من رجل فقد عقله ، أم تزوجت من رجل فقد الإحساس بخطر الموت الذي يقترب منه كل لحظة .
• الخادم / هدئي من روعك .. ما هكذا تُعالج الأمور .
• الزوجة / وكيف تريد للأمور أن تُعالج بالله عليك .. كيف ؟
• الخادم / لقد عرفتك وأحببتك امرأة مؤمنة ، وأنا لن أهرب من قدري إذا كان قدري أن أموت بين أنياب كلاب سيدي هذا .
• الزوجة / إنك تلقي بنفسك إلى التهلكة ، ألا تفهم ؟ افعل شيئا تهرب به من هذه النهاية الدامية .. افعل شيئا بالله عليك ( تبكي ) .
• الخادم / حسن ، سأجتهد في التفكير في وسيلة أستطيع بها أن أنقذ حياتي من الموت .
• الزوجة / ما رأيك لو أننا هربنا من هذا المكان ؟
• الخادم / تأكدي بأنه سيصل إلينا ، وساعتها لن يحكم علي وحدي بالموت بل سيحكم علينا نحن الاثنين بالفناء .. لا لا لن أجازف وأعرّض حياتك للخطر .
• الزوجة / ما عسانا أن نفعل إذن ؟
• الخادم / أنا على يقين بأن الله لن يتخلى عنا ، وسيهديني إلى طريقة أنجو بها من شرور هذا التاجر .
• ومرت الأيام ولم يكن يغمض لزوجته جفن ، فقد كان قلقها وخوفها على حياة زوجتها يزيد يوما بعد يوم ، وما كان يزيد من حيرتها أنها ترى زوجها هادئ البال ، لا يكترث كثيرا بانقضاء أيام السنة وشهورها واقتراب موعد تقديمه للكلاب لكي تفترسه ، في الوقت نفسه كان السيد يذكر خادمه المطيع بالمصير الذي ينتظره ، ويهول له الموقف العصيب الذي سيكون فيه في اليوم الموعود وحيدا في على أرض الحلبة ، وأمام الكلاب الشرسة الجائعة ، لم يكن الخادم يهتم كثيرا بأقوال وتهديدات ووعيد سيده ، بل كان يقابل كل ذلك بابتسامة ثقة بالنفس ، وإن كان قلبه ممتلئ بالرعب من هذه المواجهة التي قد تضع حدا لحياته ، انقضت على خدمة الخادم عند التاجر عشرة شهور ، وبقي شهران على اليوم الموعود الذي سيلقي فيه السيد خادمه إلى الكلاب الجائعة ، فجلس الخادم إلى زوجته يتحدثان في هذا الأمر .
• الزوجة / ( بقلق ) أنا لا أدري ما الذي أصابك .. الأيام تمر سريعا ، وأنت كما أنت لا تشعر بالمصيبة التي تنتظرك .
• الخادم / صدقيني أنا في حيرة شديدة من أمري ، فعقلي يأبى أن يهديني إلى وسيلة أنقذ بها حياتي .
• الزوجة / استمع إلي جيدا .. لقد قلت لك من البداية إن الحل الوحيد هو أن نهرب بعيدا عن هذا المكان .
• الخادم / يا عزيزتي .. هذا الرجل لن يهنأ له بال حتى يعثر علينا ليقدمنا سويا إلى كلابه المفترسة .. فسيرسل في أثرنا الرجال ، وسيمنح مكافأة عظيمة لمن يعثر علينا ، لهذا لا فائدة من الهرب ولا طائل .
• الزوجة / لقد انقضت عشرة شهور من السنة كان قلبي فيها ينفطر من الحزن والخوف كل لحظة .. صدقني لو قلت لك إنني أموت في اليوم الواحد أكثر من مرة ، فما هي قيمة هذه الحياة التي نعيشها إذن ؟
• الخادم / ( بتفاؤل ) يا الهي .. كيف لم أفكر في هذا الأمر من قبل .
• الزوجة / ما الأمر ؟
• الخادم / أجل إنها الطريقة الوحيدة للخلاص من شر هذا السيد الجاحد .
• الزوجة / ماذا تعني بكلامك هذا ؟
• الخادم / الكلاب .
• الزوجة / الكلاب .. ما بها ؟
• الخادم / الكلاب هي التي ستنقذ حياتي من الموت في اليوم الموعود .
• الزوجة / بالله عليك كيف ستنقذ الكلاب حياتك وهي التي ستنهش جسدك حتى الموت ؟
• الخادم / حمدا لك يا الهي .. حمدا لك .
• الزوجة / يكفي يا رجل ، وأخبرني عن حقيقة ما تتحدث عنه ؟
• الخادم / استمعي إلي جيدا يا زوجتي الحبيبة .
كانت الطريقة التي توصل إليها الخادم لإنقاذ حياته من الموت في الحلبة وبين أنياب الكلاب المفترسة تتمثل في أن يعقد صداقة وألفة بينه وبين الكلاب ، فقد حرص الخادم على مصادقة الكلاب المتوحشة التي يستخدمها التاجر عادة في افتراس خدمه كل سنة ، فكان الخادم يقوم بتقديم الطعام للكلاب دون أن يعرف التاجر بذلك ، كما كان يلاعب الكلاب ويلاطفها حتى ألفته بدرجة كبيرة واستأنست إليه ، وعندما اقتربت سنة الخدمة من نهايتها قام التاجر بحبس الكلاب أياما دون أن يقوم بإطعامها حتى تجوع وتصبح شديدة الرغبة في الافتراس .
وجاء اليوم الموعود أو اليوم المحدد لإلقاء الخادم إلى الكلاب الجائعة ، وتم اقتياد الخادم إلى الحلبة وهو مقيد اليدين ، معصوب العينين ، وتم إلقاؤه وسط الحلبة ، وانتظر الجميع إشارة البدء من التاجر ، وعندما حانت لحظة الصفر ، أمر التاجر بأن يلقى الخادم إلى الكلاب الجائعة لكي تفترسه ، لكن ما حدث كان مفاجأة كبيرة لم يتوقع أحد حدوثها بأي حال من الأحوال ، لقد جعلت المفاجأة التاجر وأعوانه يقفون بلا حراك وبذهول لفترة من الوقت .
إن حقيقة ما حدث هو أنه عندما تم إطلاق الكلاب المتوحشة لتفترس الخادم بشراستها المعهودة مع الخدم السابقين ، لم تبادر الكلاب بالهجوم على الخادم ولم تفترسه بل اقتربت منه تهز ذيولها وأخذت تتمسح به بكل مودة ، استدعى التاجر خادمه وسأله عن هذا التصرف الغريب لكلابه الذي قامت به لأول مرة في حياتها ، فقال الخادم :
• الخادم / يا سيدي .. لقد خدمتك سنة كاملة ، كنت خلالها الخادم المطيع لأوامرك ، المخلص لك ، الأمين على مالك وعرضك ، فكان جزائي منك أن ألقيتني إلى الكلاب المتوحشة لتفترسني بلا رحمة ، ولقد خدمت أنا هذه الكلاب شهرين من عمر الزمن فقط ، فكان منها ما رأيت من وفاء وحفظ للجميل .
• ساعتها عاد التاجر إلى رشده ، وأطلق الخادم بعد أن منحه من المال ما يكفيه وزوجته ، وتخلى عن عادة تقديم خدمه إلى الكلاب المفترسة .
الموضوع الاصلي
من روعة الكون