لإبراهيم ناجي
يا فؤادي، رحم الله الهوى كان صرحا من خيال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله وارو عني، طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً وحديثاً من أحاديث الجوى
وبساطاً من ندامى حلم هم تواروا أبداً، وهو انطوى
يا رياحاً، ليس يهدا عصفها نضب الزيت ومصباحي انطفا
وأنا أقتات من وهم عفا وأفي العمر لناس ما وفى
كم تقلبت على خنجره لا الهوى مال، ولا الجفن غفا
وإذا القلب - على غفرانه - كلما غار به النصل عفا
يا غراماً كان مني في دمي قدراً كالموت، أو في طعمه
ما قضينا ساعة في عرسه وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه واغتصابي بسمه من فمه
ليت شعري أين منه مهربي أين يمضي هارب من دمه ؟
لست أنساك وقد ناديتني بفم عذب المناداة رقيق
ويد تمتد نحوي، كيد من خلال الموج مدت لغريق
آه يا قبلة أقدامي، إذا شكت الأقدام أشواك الطريق
وبريقاً يظمأ الساري له أين في عينينك ذياك البريق ؟
لست أنساك، وقد أغريتني بالذرى الشم،فأدمنت الطموح
أنت روح في سمائي، وأنا لك أعلو، فكأني محض روح
يا لها من قمم كنا بها نتلاقى، وبسرينا نبوح
نستشف الغيب من أبراجها ونرى الناس ظلال في السفوح
أنت حسن في ضحاه لم يزل وأنا عندي أحزان الطفل
وبقايا الظل من ركب رحل وخيوط النور من نجم أفل
ألمح الدنيا بعيني سئم وأرى حولي أشباح الملل
راقصات فوق أشلاء الهوى معولات فوق أجداث الأمل
ذهب العمر هباء، فاذهبي لم يكن وعدك إلا شبحا
صفحة قد ذهب الدهر بها أثبت الحب عليها ومحا
انظري ضحكي ورقصي فرحا وأنا أحمل قلباً ذبحا
ويراني الناس روحا طائراً والجوى يطحنني طحن الرحى
كنت تمثال خيالي، فهوى المقادير أرادت لا يدي
ويحها، لم تدر ماذا حطمت حطمت تاجي، وهدت معبدي
يا حياة اليائس المنفرد يا يباباً ما به من أحد
يا قفاراً لافحات ما بها من نجي، يا سكون الأبد
أين من عيني حبيب ساحر فيه نبل وجلال وحياء
واثق الخطوة يمشي ملكاً ظالم الحسن، شهي الكبرياء
عبق السحر كأنفاس الربى ساهم الطرف كأحلام المساء
مشرق الطلعة، في منطقه لغة النور، وتعبير السماء
أين مني مجلس أنت به فتنة تمت سناء وسنى
وأنا حب وقلب ودم وفراش حائر منك دنا
ومن الشوق رسول بيننا ونديم قدم الكأس لنا
وسقانا، فانتفضنا لحظة لغبار آدمي مسنا !
قد عرفنا صولة الجسم التي تحكم الحي، وتطغى في دماه
وسمعنا صرخة في رعدها سوط جلاد، وتعذيب إله
أمرتنا، فعصينا أمرها وأبينا الذل أن يغشى الجباه
حكم الطاغي، فكنا في العصاة وطردنا خلف أسوار الحياه
يا لمنفيين ضلا في الوعور دميا بالشوك فيها والصخور
كلما تقسو الليالي، عرفا روعة الآلام في المنفى الطهور
طردا من ذلك الحلم الكبير للحظوظ السود، والليل الضرير
يقبسان النور من روحيهما كلما قد ضنت الدنيا بنور
أنت قد صيرت أمري عجبا كثرت حولي أطيار الربى
فإذا قلت لقلبي ساعة قم نغرد لسوى ليلى أبى
حجب تأبى لعيني مأربا غير عينيك، ولا مطلبا
أنت من أسدلها، لا تدعي أنني أسدلت هذي الحجبا
ولكم صاح بي اليأس انتزعها فيرد القدر الساخر : دعها
يا لها من خطة عمياء، لو أنني أبصر شيئاً لم أطعها
ولي الويل إذا لبيتها ولي الويل إذا لم أتبعها
قد حنت رأسي، ولو كل القوى تشتري عزة نفسي، لم أبعها
يا حبيباً زرت يوماً أيكه طائر الشوق، أغني ألمي
لك إبطاء الدلال المنعم وتجني القادر المحتكم
وحنيني لك يكوي أعظمي والثواني جمرات في دمي
وأنا مرتقب في موضعي مرهف السمع لوقع القدم
قدم تخطو، وقلبي مشبه موجة تخطو إلى شاطئها
أيها الظالم : بالله إلى كم أسفح الدمع على موطئها
رحمه أنت، فهل من رحمة لغريب الروح أو ظامئها
يا شفاء الروح، روحي تشتكي ظلم آسيها، إلى بارئها
أعطني حريتي واطلق يديّ إنني أعطيت ما استبقيت شيّ
آه من قيدك أدمى معصمي لم أبقيه، وما أبقى علي ؟
ما احتفاظي بعهود لم تصنها وإلام الأسر، والدنيا لدي !
ها أنا جفت دموعي فاعف عنها إنها قبلك لم تبذل لحي
وهب الطائر من عشك طارا جفت الغدران، والثلج أغارا
هذه الدنيا قلوب جمدت خبت الشعلة، والجمر توارى
وإذا ما قبس القلب غدا من رماد، لا تسله كيف صارا
لا تسل واذكر عذاب المصطلي وهو يذكيه فلا يقبس نارا
لا رعى الله مساء قاسياً قد أراني كل أحلامي سدى
وأراني قلب من أعبده ساخراً من مدمعي سخر العدا
ليت شعري، أي أحداث جرت أنزلت روحك سجناً موصدا!
صدئت روحك في غيهبها وكذا الأرواح يعلوها الصدا
قد رأيت الكون قبراً ضيقاً خيم اليأس عليه والسكوت
ورأت عيني أكاذيب الهوى واهيات كخيوط العنكبوت
كنت ترثي لي، وتدري ألمي لو رثى للدمع تمثال صموت
عند أقدامك دنيا تنتهي وعلى بابك آمال تموت
كنت تدعوني طفلا، كلما ثار حبي، وتندت مقلي
ولك الحق، لقد عاش الهوى في طفلا، ونما لم يعقل
وأرى الطعنة إذ صوبتها فمشت مجنونة للمقتل
رمت الطفل، فأدمت قلبه وأصابت كبرياء الرجل
قلت للنفس وقد جزنا الوصيدا عجلي لا ينفع الحزم وئيدا
ودعي الهيكل شبت ناره تأكل الركع فيه والسجودا
يتمنى لي وفائي عودة والهوى المجروح يأبى أن نعودا
لي نحو اللهب الذاكي به لفتة العود إذا صار وقودا
لست أنس أبداً ساعة في العمر
تحت ريح صفقت لارتقاص المطر
نوحت للذكر وشكت للقمر
وإذاما طربت عربدت في الشجر
هاك ما قد صبت الريــــح بأذن الشاعر
وهي تغري القلب إغـراء الفصيـح الفاجر :
" أيها الشاعر تغفو تذكر العهد وتصحو
وإذا ما التام جرح جد بالتذكار جرح
فتعلم كيف تنسى وتعلم كيف تمحو
أو كـل الحب في رأيـك غفـران وصفح ؟
هاك فانظر عدد الرمـــــل قلوباً ونساء
فتخير ما تشاء ذهب العمر هباء
ضل في الأرض الذي ينشد أبناء السماء
أي روحانية تعـــــصر من طين وماء؟ "
أيها الريح أجل، لكنما هي حبي وتعلاتي ويأسي
هي في الغيب لقلبي خلقت أشرقت لي قبل أن تشرق شمسي
وعلى موعدها أطبقت عيني وعلى تذكارها وسدت رأسي
جنت الريح ونادتــــــــــه شياطين الظلام
أختاماً ! كيف يحلو لك في البدء الختام ؟
يا جريحاً أسلم الــــــــــجرح حبيباً نكأة
هو لا يبكي إذا النـــــــــــاعي بهذا نبأه
أيها الجبار هل تصــــــــرع من أجل امرأه ؟
يا لها من صيحة ما بعثت عنده غير أليم الذكر
أرقت في جنبه، فاستيقظت كبقايا خنجر منكسر
لمع النهر وناداه له فمضى منحدرا للنهر
ناضب الزاد، وما من سفر دون زاد غير هذا السفر
يا حبيبي كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلي غايته لا تقل شئنا،وقل لي الحظ شاء !
يا مغني الخلد، ضيعت العمر في أناشيد تغنى للبشر
ليس في الأحياء من يسمعنا ما لنا لسنا نغني للحجر !
للجمادات التي ليست تعي والرميمات البوالي في الحفر
غنها، سوف تراها انتفضت ترحم الشادي وتبكي للوتر
يا نداء كلما أرسلته رد مقهوراً وبالحظ ارتطم
وهتافاً من أغاريد المنى عاد لي وهو نواح وندم
رب تمثال جمال وسنا لاح لي والعيش شجو وظلم
ارتمى اللحن عليه جاثياً ليس يدري أنه حسن أصم
هدأ الليل ولا قلب له أيها الساهر يدري حيرتك
أيها الشاعر خذ قيثارتك غن أشجانك واسكب دمعتك
رب لحن رقص النجم له وغزا السحب وبالنجم فتك
غنه، حتى ترى ستر الدجى طلع الفجر عليه فانهتك
وإذا ما زهرات ذعرت ورأيت الرعب يغشى قلبها
فترفق واتئد واعزف لها من رقيق اللحن، وامسح رعبها
ربما نامت على مهد الأسى وبكت مستصرخات ربها
أيها الشاعر، كم من زهرة عوقبت، لم تدر يوماً ذنبها !
الموضوع الاصلي
من روعة الكون