الشعائر بين الحقائق والمظاهر
تأمل العبادات في القرآن والسنة وستجد أن من أهم مقاصدها ؛ تهذيب سلوك المسلم وتزكية أخلاقه، فتأمل مثلاً الغاية والغرض من الصلاة يقول تعالى " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" [ العنكبوت :45] فالذي لا تأمره صلاته عن الرذائل من القول والعمل ، فإن صلاته لم تُحقق مقصداً من أهم مقاصدها.
وتأمل ثمرة الصيام والغرض منه " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " [ البقرة: 183]، فليس الغرض من الصيام مجرد امتناع مؤقت عن الأكل والشرب فحسب؛ بل اعتبره الشارع خطوة وتربية لحرمان النفس دائماً من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكرة ، كاللغو والرفث وقول الزور والعمل به ونحو ذلك..
وتأمل الغرض من الزكاة في قوله تعالى" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها.. "[التوبة :103]، فليست الزكاة مجرد ضريبة تؤخذ من الأغنياء؛ بل هي أولاً غرس وتربية على الأخلاق الجميلة وتصفية من الأخلاق الذميمة. يقول ابن سعدي رحمه الله في تفسيره " تطهرهم : أي تُطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة. وتُزكيهم : أي تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة.."[ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/292].
وتأمل أيضاً الغرض من الحج، فهو ليس رحلة مجردة عن المعاني الخُلقية وإنما تربية على اجتناب العادات المرذولة من الرفث والفسق والجدال قال تعالى " الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحـج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج .." [ البقرة:197]. وهكذا بقية التكاليف.. .
وما ذكرته إنما هو صورة مجملة لأركان الإسلام فحسب، وإلا فجميع التكاليف تهدف أول ما تهدف إلى تزكية سلوك المسلم وتهذيب أخلاقه، ومن يمعن النظر في النصوص التي تضمنها القرآن والسنة يجدها زاخرة بالمبادئ والمثل الأخلاقية والسلوكية التي لا يوجد لها مثيل في أي دين أو تشريع آخر ، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حصر الغرض من بعثته كلها بقوله " إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[مسند الإمام أحمد 2/381 ].
ومن يريد أن يبني نفسه فإن من أولويات ذلك البناء السلوكي والأخلاقي، وكم يحزننا ويجرح مشاعرنا؛ ما نسمعه ونراه من (بعض المتدينين) الذين يفصلون بين تلك العبادات وآثارها، فتجد بعضهم حريصاً على مظهره الخارجي ، محافظاً على كثير من أمور العبادة من صلاة وصيام وحج وعمرة وغيرها..، بل وتجد بعضهم يترفع عن بعض المباحات خشية من الوقوع في المكروهات، وهذا شيء يُحمدون عليه؛ إلا إن بعضهم في المقابل لا يلتفت إلى (آثار) تلك العبادات التي (يجب) أن تظهر على سلوكه وأخلاقه وتعامله، فترى بعضهم يتصف بالشراسة وسـوء الخلق مع من يتعاملون معه، وبعضهم الآخر تجده رقيقاً هيناً ليناً بشوشاً مع أصدقائه وزملائه، ولكنه يصبح شخصاً آخر مع أقرب الناس إليه، وبالذات مع الوالدة أو الوالد أو الزوجة الذين لا يرون منه إلا الجانب الآخر!!.
والناس إنما يهتمون بشكل بالغ وارتباط وثيق مع سلوك المتدين أكثر من كلامه، ولعل من أهم أسباب تراجع الدعوة في هذا الزمن وعدم استمرار انسيابها بين أفراد مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بل ومجتمعات العالم كله؛ سوء سلوك بعض المسلمين، والفصام النكد بين بعض من ينتسب لهذا الدين؛ وتطبيقهم له واقعاً ملموساً في حياتهم وتعاملاتهم، وما علموا أنهم قد يصبحون فتنة يصدون كثير من الناس عن الالتحاق بركب هذا الدين بسوء سلوكهم الذي كان في يوم من الأيام سبب دخول دول بكاملها في الإسلام.
وإذا أردت أن تقف على أهمية السلوك الجيد والتعامل الحسن في حياة المسلم عامة والداعية خاصة؛ فانظر إلى أثره البالغ عند حديث الناس عن الشخص المتدين، فهم لا ينظرون إلى قوة التـزامه ولا كثرة كلامه وخطبه بقدر ما ينظرون إلى سلوكه وحسن تعامله. بل انظر إلى أثره البالغ في إسلام شعوب بكاملها ودخولهم في دين الله أفواجاً، فأهل أندنوسيا وأفغانستان وباكستان والهند وبنقلاديش والجمهوريات الإسلامية..، وكذا معظم الشعوب الإسلامية في أفريقيا والأمريكتين وأوربا؛ بل وفي كل مكان، إنما دخل معظم أولئك في دين الله أفواجاً بسبب مارأوه من حسن تعامل المسلمين ، وإعجابهم بكريم أخلاقهم، وإخلاصهم في بيعهم وشرائهم ، وعدم ظلمهم أو غشهم..، وعندما تخلف هذا السلوك عند عامة المسلمين، تخلفت الأمة حضارياً، وأصبح يُنظر إليها نظرة احتقار ودونية، نرى هذا ونلمسه عند قطاع عريض من شعوب العالم !!.
ووالله لو تُرك الإسلام ينتشر بنفسه ودون أي مؤثرات سلبية أو معوقات سلوكية، لرأيت من قوة انتشاره مرة أخرى ؛ ما لا تستطيع أي قوة أخرى إيقافه أو الحد منه أو السيطرة على سرعة انتشاره.
وإنها لخدمة عظيمة نسديها لأمتنا ولديننا، حينما نُربي أنفسنا على الأخلاق الجيدة، وحسن التعامل مع الغير، وإظهار محاسن الإسلام، ومبادئه العظام، بتمثله واقعاً في جميع علاقاتنا وتصرفاتنا وأفعالنا مع المسلم وغير المسلم.
مما قرأت
الموضوع الاصلي
من روعة الكون