الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
وبعد
البكاءُ فطرةٌ بشريّةٌ كما ذكر أهل التفسير ، فقد قال القرطبي في تفسير قول الله تعالى : { وأنّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم / 43 ] : " أي : قضى أسباب الضحك والبكاء ، وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني : أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء ...
" تفسير القرطبي " ( 17 / 116 ) .
وبما أن البكاء فعل غريزي لا يملك الإنسان دفعه غالباً فإنه مباح بشرط ألا يصاحبه ما يدلُّ على التسخُّط من قضاء الله وقدره ، لقول النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " إنَّ اللهَ لا يُعذِّبُ بدمعِ العينِ ولا بحزنِ القلبِ ، ولكن يُعَذِّبُ بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحمُ " البخاري ( 1242 ) ومسلم ( 924 ) .
أنواع البكاء وأصدقها
قال يزيد بن ميسرة رحمه الله : " البكاء من سبعة أشياء : البكاء من الفرح ، والبكاء من الحزن ، والفزع ، والرياء ، والوجع ، والشكر ، وبكاء من خشية الله تعالى ، فذلك الذي تُطفِئ الدمعة منها أمثال البحور من النار ! " .
وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه " زاد المعاد " عشرة أنواع للبكاء نوردها كما ذكرها .
* بكاء الخوف والخشية .
* بكاء الرحمة والرقة .
* بكاء المحبة والشوق .
* بكاء الفرح والسرور .
* بكاء الجزع من ورود الألم وعدم احتماله .
* بكاء الحزن .... وفرقه عن بكاء الخوف ، أن الأول " الحزن " : يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب وبكاء الخوف : يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك ، والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ، ودمعة الحزن : حارة والقلب حزين ، ولهذا يقال لما يُفرح به هو " قرة عين " وأقرّ به عينه ، ولما يُحزن : هو سخينة العين ، وأسخن الله به عينه .
* بكاء الخور والضعف .
* بكاء النفاق وهو : أن تدمع العين والقلب قاس .
* البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة فإنها كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها .
* بكاء الموافقة : فهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر عليهم فيبكي معهم ولا يدري لأي شيء يبكون يراهم يبكون فيبكي .
" زاد المعاد " ( 1 / 184 ، 185 ) .
والبكاء من خشية الله تعالى أصدق بكاء تردد في النفوس ، وأقوى مترجم عن القلوب الوجلة الخائفة .
البكاء الكاذب
البكاء قد يكون دليلاً على صدق الباكي ، وقد لا يكون ، وقد ذكر القرآن الكريم قصة إخوة يوسف عليه السلام وكيف تباكوا على أخيهم كذباً فقال تعالى : { وجاؤوا أباهُمْ عِشَاءً يَبْكونَ } [ يوسف / 16 ] ، وعلى هذا فإن بكاء أحد المتخاصمين في القضاء ليس دليلاً يُعتدُّ به .
بكاء الإثم !!
البكاء على موت كافر أو طاغية أو فاسد ، والبكاء العاشقين ، وأهل الغرام بالأغاني .
فما في الأرض أشقى مـن محب *** وإن وجد الهـوى حلو المذاق
تـراه باكيـا فـي كــل حـين *** مخافـة فرقـة أو لاشـتياق
فتسخـن عينـه عنـد التلاقـي *** وتسـخن عينـه عند الفراق
ويبكـي إن نـأوا شوقـا إليهـم *** ويبكي إن دنوا خوف الفـراق
فضل البكاء من خشية الله
قال تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ . فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [ الطور / 25 – 28 ]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع " . رواه الترمذي ( 1633 ) .
وقالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ : إِمامٌ عادِلٌ ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تَعالى ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه ، اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ ، فَقَالَ : إِنّي أَخافُ اللَّه ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " .
رواه البخاري ( 629 ) ومسلم ( 1031 ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله " . رواه الترمذي ( 1639 ) ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " ( 1338 ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة من دموع خشية الله ، وقطرة دم تهراق في سبيل الله ، وأما الأثران : فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله " رواه الترمذي ( 1669 ) ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " ( 1363 ) .
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " لأن أدمع من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار ! " .
وقال كعب الأحبار : لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهباً .
حال الملائكة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل : " ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكاً قط ؟ " قال : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار .
رواه أحمد ( 12930 ) ، وقال المناوي في " فيض القدير " ( 5 / 452 ) : ... قال الزين العراقي إسناده جيد ، وحسنه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " ( 3664 ) . [ تنبيه : هذا الحديث من الأحاديث التي تراجع الشيخ الألباني من تضعيفه إلى تحسينه ] .
عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مررتُ ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحِلس البالي من خشية الله تعالى " .
رواه الطبراني في " الأوسط " ( 5 / 64 ) وحسنه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " ( 5864 ) .
بكاء الأنبياء
قال تعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذريه آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذريه إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً } [ مريم / 58 ] .
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم
عَن ابن مَسعودٍ - رضي اللَّه عنه – قالَ : قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " اقْرَأْ علَّي القُرآنَ " قلتُ : يا رسُولَ اللَّه ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ ، قالَ : " إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي " فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء ، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية : { فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً } [ النساء / 40 ] قال " حَسْبُكَ الآن " فَالْتَفَتَّ إِليْهِ ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ . البخاري ( 4763 ) ومسلم ( 800 ) .
قال ابن بطال :
وإنما بكى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة ، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به ، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف ، وأهواله ، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن .
وعَن عبد اللَّه بنِ الشِّخِّير - رضي اللَّه عنه – قال : أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ . رواه أحمد ( 15877 ) ، والنسائي ( 1214 ) وهذا لفظه ، وأبو داود ( 904 ) بلفظ " ... كأزيز الرحى " ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " ( 544 ) .
المِرْجل : القِدر الذي يغلي فيه الماء .
عن عبيد بن عمير رحمه الله : " أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - : أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : فسكتت ثم قالت : لما كانت ليلة من الليالي .
قال : " يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي " .
قلت : والله إني أحب قُربك ، وأحب ما يسرك .
قالت : فقام فتطهر ، ثم قام يصلي .
قالت : فم يزل يبكي ، حتى بل حِجرهُ !
قالت : وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته !
قالت : ثم بكى حتى بل الأرض ! فجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي ، قال : يا رسول الله تبكي ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال : " أفلا أكون عبداً شكورا ؟! لقد أنزلت علي الليلة آية ، ويل لم قرأها ولم يتفكر فيها ! { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ … } الآية كلها [ آل عمران / 190 ] " رواه ابن حبان ( 2 / 386 ) وغيره ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " ( 1468 ) ، وفي " الصحيحة " ( 68 ) .
عن أنس رضي الله عنه قال : شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان ، فقال : هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة ؟ فقال أبو طلحة : أنا ، قال : فانزل في قبرها ، فنزل في قبرها فقبرها . رواه البخاري ( 1225 ) .
وبكى شفقة على أمته .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني } الآية [ إبراهيم / 36 ] وقال عيسى عليه السلام { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة / 118 ] فرفع يديه وقال - اللهم أمتي أمتي - وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال - وهو أعلم - فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك . رواه مسلم ( 202 ) .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - أيضاً - قال : انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده فقال : أف أف ، ثم قال : رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ؟ ونحن نستغفرك ، فلما صلى ركعتين انجلت الشمس فقام فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا انكسفا فافزعوا إلى ذكر الله تعالى . رواه أبو داود ( 1194 ) وصححه الشيخ الألباني في " صحيح أبي داود " ( 1055 ) لكن بذكر الركوع مرتين كما في الصحيحين .
بكاء الصحابة
عن أنس رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " ، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوم ولهم خنين ، وفي رواية : بلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال : " عرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين " . رواه البخاري ( 4345 ) ، والرواية الثانية لمسلم ( 2359 ). ، والخنين : هو البكاء مع غنّة .
قال ابن حجر :
المراد بالعلم هنا : ما يتعلّق بعظمة الله وانتقامه ممّن يعصيه ، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة .
وعن أبي سفيان عن أشياخه قال : قدم سعد على سلمان يعوده ، قال : فبكى ، فقال سعد : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض وترد عليه الحوض وتلقى أصحابك ، فقال : ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً قال : " لتكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب " وحولي هذه الأساود قال وإنما حوله إجانة وجفنة ومطهرة فقال يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت وعند يديك إذا قسمت وعند حكمك إذا حكمت .
رواه الحاكم ( 4 / 353 ) وقال صحيح الإسناد – قال المنذري - : كذا قال .
قوله " وهذه الأساود حولي " قال أبو عبيد : أراد الشخوص من المتاع وكل شخص سواد من إنسان أو متاع أو غيره ، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب " ( 3224 ) ، وقال معلقاً تحت هذا الحديث : بُلْغَة : بضم الموحدة ، ما يُتَبَلَّغ به من العيش ، إجانة : شيء تغسل فيه الثياب ، والجفنة : كالقصة ، والمطهرة : إدواة الماء ، ذكرها الجوهري بفتح الميم وكسرها ثم قال : والفتح أعلى ...
وعن هانئ مولى عثمان رضي الله عنه قال : كان عثمان إذا وقف على قبر ؛ بكى حتى يبل لحيته ! فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا ؟! فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، فإن نجا منه ، فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه ؛ فما بعده أشد منه ! " قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قط إلاّ القبر أفظع منه ! " رواه أحمد ( 456 ) ، والترمذي ( 2308 ) ، وابن ماجه ( 4267 ) ، وحسنه الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " للألباني ( 1878 ) .
وبكى معاذ رضي الله عنه بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك ؟ قال : لأن الله عز وجل قبض قبضتين واحدة في الجنة والأخرى في النار ، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون .
وبكى الحسن فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : أخاف أن يطرحني الله غداً في النار ولا يبالي .
وعن تميم الداري رضى الله عنه أنه قرأ هذه الآية : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية / 21 ] فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي .
وكان حذيفة رضي الله عنه يبكي بكاءً شديداً ، فقيل له : ما بكاؤك ؟ فقال : لا أدري على ما أقدم ، أعلى رضا أم على سخط ؟ .
عن سعد عن أبيه قال : أُتي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوما بطعامه فقال : قتل مصعب بن عمير وكان خيراً مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، وقتل حمزة – أو رجل آخر – خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، ثم جعل يبكي . رواه البخاري ( 1215 ) .
وقال سعد بن الأخرم : كنت أمشي مع ابن مسعود فمَّر بالحدَّادين و قد أخرجوا حديداً من النار فقام ينظر إلى الحديد المذاب ويبكي . وما هذا البكاء إلا لعلمهم بأن الأمر جد والحساب قادم ولا يغادر صغيره ولا كبيره إلا أحصاها .
وخطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه مرة الناس بالبصرة : فذكر في خطبته النار ، فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر ! وبكى الناس يومئذ بكاءً شديداً .
وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ سورة المطففين :1 ] فلما بلغ : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة المطففين :6 ] بكى حتى خرَّ وامتنع عن قراءة ما بعده .
عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } [ الحديد / 16 ] بكى حتى يغلبه البكاء .
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحديد / 16 ] :
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين.
رواه مسلم ( 3027 ) .
وقال مسروق رجمه الله : " قرأت على عائشة هذه الآيات : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [ الطور / 27 ] فبكت ، وقالت " ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم " .
بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه . فقيل له : ما يبكيك ؟! فقال : " أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بُعد سفري ، وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي !! " .
كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال ما يبكيك فقالت رأيتك تبكي فبكيت قال إني ذكرت قول الله عز وجل { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً } [ مريم / 71 ] فلا أدري أأنجو منه أم لا .
اشتكى سلمان الفارسي فعاده سعد بن أبي وقاص فرآه يبكي فقال له سعد : ما يبكيك يا أخي أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس ؟ أليس ؟ قال سلمان : ما أبكي واحدة من اثنتين ما أبكي ضنّاً للدنيا ولا كراهية للآخرة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهداً فما أراني إلا قد تعديت ! قال : وما عهد إليك ؟ قال : عهد إليَّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب ولا أراني إلا قد تعديت ، وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت ، وعند قسمك إذا قسمت ، وعند همك إذا هممت . قال ثابت : فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهما من نفقة كانت عنده . رواه ابن ماجه ( 4104 ) ، وصححه الشيخ الألباني في" صحيح ابن ماجه " ( 3312 ) ، " وصحيح الترغيب " ( 3225 ) .
عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيِّ بن كعب إن الله أمرني أن أقرئك القرآن قال أالله سماني لك ؟ قال : نعم ، قال : وقد ذُكرت عند رب العالمين ؟ قال : نعم ، فذرفت عيناه - وفي رواية : فجعل أبيٌّ يبكي - . رواه البخاري ( 4677 ) ، ومسلم ( 799 ) .
بكاء السلف الصالح
وكان بعض الصالحين يبكي ليلاً ونهاراً ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف أن الله تعالى رآني على معصية ، فيقول : مُرَّ عنى فإني غضبان عليك .
وهذا إسماعيل بن زكريا يروي حال حبيب بن محمد - وكان جارا له – يقول : كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه وإذا أصبحت سمعت بكاءه ، فأتيت أهله ، فقلت ما شأنه ؟ يبكي إذا أمسى ، ويبكي إذا أصبح ؟! قال : فقالت لي : يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح و إذا أصبح أن لا يمسي .
وحين عوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه ، وقيل له : لو كانت النار خُلِقتْ لك ما زدت على هذا ؟! قال : وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن و الإنس ؟؟ .
وحين سئل عطاء السليمي : ما هذا الحزن قال : ويحك ، الموت في عنقي ، والقبر بيتي ، وفي القيامة موقفي وعلى جسر جهنم طريقي لا أدري ما يُصنَع بي .
وكان فضالة بن صيفي كثير البكاء ، فدخل عليه رجل وهو يبكي فقال لزوجته ما شأنه ؟ قالت : زعم أنه يريد سفراً بعيداً وماله زاد .
وانتبه الحسن ليلة فبكى ، فضج أهل الدار بالبكاء ، فسألوه عن حاله فقال : ذكرت ذنباً لي فبكيت.
وحدث من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة : أن رجلاً قرأ عنده : { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } [ الفرقان : 13 ] فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرَّق الناس .
وقال خالد بن الصقر السدوسي : كان أبي خاصاً لسفيان الثوري ، قال أبي : فاستأذنت على سفيان في نحر الظهر ، فأذنت لي امرأة ، فدخلت عليه وهو يقول : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } [ سورة الزخرف :80 ] ثم يقول : بلى يا ربّ ! بلى يا ربّ ! وينتحب ، وينظر إلى سقف البيت ودموعه تسيل ، فمكثت جالساً كم شاء الله ، ثم أقبل إليّ ، فجلس معي . فقال : منذ كم أنت ها هنا ! ما شعرت بمكانك !
بكاء المعاصرين
عندما بكى الشيخ ابن باز
دموع سماحة الوالد ليست ملكاً له ، فعينه تغلبه كثيراً عندما تقرأ عليه آية من كتاب الله ، أو يسمع حادثة من حوادث السيرة النبوية أو يحكى له موقف مؤثر من الماضي أو الحاضر ، وها هم طلابه يتحدثون عن هذا الموضوع .
فقد سألنا أحد طلاب الشيخ عن أبرز المواطن التي تغلب الشيخ فيها دموعه فيبكي فأجاب :
شيخنا قريب الدمعة ، يبكي كثيراً حتى إن بكاءه يصل إلى حد الجياش الشديد ، فهو يبكي عند ذكر الوعد والوعيد ، ويبكي عند حصول بعض المصائب لبعض المسلمين ، ويبكي عند حصول بعض الغرائب في الدين التي هي من أعظم المصائب ، ويبكي عند ذكر السلف الصالح وأحوالهم في الزهد والتقشف ، ويبكي حين تذكر شيوخه وإخوانه الذين ماتوا قبله ، أو حين تحل بهم أقدار الله .
قلب رقيق
ويكمل الحديث أحد الطلاب الذين يحضرون دروس سماحة الشيخ منذ عام 1399هـ فيقول :
الشيخ حفظه الله يملك قلباً رقيقاً متأثراً بكل ما يسمعه من الآيات والأحاديث النبوية وكذا سيرة الصحابة رضي الله عنهم ، فكم من آية من كتاب الله وقف الشيخ عندها متأثراً باكياً لما فيها من الوعيد وكذا ما أعده الله من النعيم ، وكم حديث أثار أشجان الشيخ فبكى متأثراً مما ورد فيه كقصة الإفك مثلاً وكذا توبة كعب بن مالك وغيرها من الأحاديث .
وأذكر مرة أنه قُرأ على الشيخ حديث : " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الملوك ، لا مالِك إلا الله " - البخاري ( 5852 ) ، ومسلم ( 3143 ) - قال سفيان : مثل شاهان شاه ، فكان القارئ وهو أحد تلاميذه قرأها ( شاهٍ شاه ) فقال الشيخ مصححاً له : ( شاهانَ شاه ) هكذا قرأتها على سماحة شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ، فما كان من الشيخ إلا أن دمعت عيناه وغلبه البكاء لأنه تذكر شيخه سماحة العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - فكان هذا موقفاً لا أنساه ، ودمعة على وجنتيّ شيخنا لا أنساها أبداً .
ويبدو أن لمواقف السيرة النبوية أثراً عظيماً في قلب شيخنا ابن باز حيث إنه كثيراً ما يتأثر عند سماعه بعض أخبارها .
و ها هو الأخ عبد الله الروقي يعد لنا بعض هذه المواطن :
أذكر منها : بكى عند قصة تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك ، وبكى عند حديث الإفك وقصة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في ذلك ، وبكى عند حديث جرير بن عبد الله البجلي الذي رواه أحمد ( ساعاتي ج 1 / 75 – 77 ) - ترقيم إحياء التراث ( 18677 ) - في قصة الأعرابي الذي أسلم ثم وقصته دابته فقال عليه الصلاة والسلام : " عمل قليلاً وأجر كثيراً " ، وبكى عند بيعة الأنصار رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية ، كما تأثر كثيراً عندما قرئ عليه من " زاد المعاد " باب فتح مكة ، وكان يكثر فيه من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك مما يطول .
الموضوع الاصلي
من روعة الكون