بائع الحليب
لم تبق لرفع أذان صلاة المغرب إلا دقائق معدودة، ومع ذلك لم يجد عبدالرحمن أثراً يذكر للفرحة التي كانت تغمر قلبه كلما حان موعد تقديم إمام المسجد لمواعظه. فقد قضى أغلب الفترة الدراسية يتساءل في حيرة واضحة: يا إلهي ماذا سأقول لإمام المسجد؟ هل أقول له: إني لم أتوصل إلى أي نتيجة رغم حرصي على مرافقته طوال اليومين السالفين؟!
وماذا عن الحقيقة التي توصلت إليها؟! فهل أعدل عن الذهاب إليه؟!
ولكنني وعدته قبل أسبوع بأنني سأطلعه على الأمر؟!
لا .. بل كيف لي أن أتغيب عن سماع مواعظه اليوم؟!
إذن يلزمني أن أقول له الحقيقة كاملة؟!
وماذا لو أنه وبخني أشد التوبيخ؟!
آه! يا ليتني ما تسرعت في إخباره بما قال لي صديقي زيد؟!
كان عبدالرحمن يومئذ في طريقه إلى بائع الحليب القريب من منزلهم حينما التقاه زيد، ولما عرف وجهته صاح فيه قائلاً: لا داعي إلى شراء الحليب من ذلك البائع الغشاش. ملأت الدهشة نفس عبدالرحمن، وما لبث أن قال بصوت خافت: لم أفهم ما تقول يا زيد؟!
قلت لك: إن ذلك البائع غشاش، فقد رأيت موزع الحليب قبل يومين فقط يسلمه لترات ماء جنباً إلى جنب مع لترات الحليب..
من غير أن يكمل.. رد عبدالرحمن بصوت مرتفع هذه المرة: وماذا في ذلك؟!
ضحك زيد وهو يقول: اعتقدت أنك ذكي! لترات ماء في لترات حليب يعني غشاً واضحاً.. المهم لقد أخبرتك بما رأيت وأنت حر!! قالها ثم انصرف ليترك عبدالرحمن في حيرة شاملة: هل حقيقة ما أخبرني به؟! ليكن؛ ما يهمني الآن هو ألا أشتري حليباً مغشوشاً؟! وماذا عن ذلك البائع الغشاش؟! من الآن فصاعداً لن أشتري منه الحليب. ولكن في هذا سكوت عن منكر؟! ما إن تفوه بكلمة منكر حتى قفز إلى ذهنه إمام المسجد. لذلك فور شرائه الحليب من بائع آخر أسرع إليه، وجده في مكتبة المسجد يقرأ أحد الكتب. حياه بتحية الإسلام، ثم في هدوء أطلعه على ما أخبره به صديقه زيد، استمع له الإمام في اهتمام حتى إذا انتهى شكره، على حرصه على تغيير منكر من المنكرات التي حث الدين الحنيف على تغييرها، لكن طلب منه أن يتأكد مما أخبره به صديقه. وإذا ثبتت صحة ذلك فإنه سيقوم شخصياً بالواجب واللازم. مر يومان كاملان، وبينما عبدالرحمن يقترب من بائع الحليب، وكله حرص على الوقوف على حقيقة الأمر، حضر الموزع، فقام البائع من مكانه في خفة، تبادلا التحية، ثم شرع الموزع يضع لترات الحليب الواحد في أثر الآخر، بعد هذا عدها قائلاً: أربعون لتراً، وها هي ذي لترات الماء.. خفق قلب عبدالرحمن خفقات متتابعة، وهو يسمع العبارة الأخيرة، إلا أن البائع ما فتئ أن صاح في ابنه الجالس إلى جانبه: يونس! أرجوك أوصل هذه اللترات من الماء إلى المنزل، فجدتك تنتظرها بفارغ الصبر، قبل أن يتوجه بالكلام إلى الموزع: تخيل يا عبدالسلام فمنذ أن أصبحت تأتيها بهذه المياه المعدنية من النبع القريب من منزلك في الريف، لم تعد ولله الحمد تشعر بالمغص الذي طالما أقلق راحتها، أحسن الله إليك وشفاك من كل سقم.. رد عليه عبدالسلام: هذا واجب لا يستدعي أدنى شكر، فأنا دائماً رهن إشارتك، أطال الله عمر والدتك في طاعته..
هنا أحس عبدالرحمن بالأشياء من حوله تدور.. ماذا فعلت؟! إني ظلمت البائع والموزع معاً؟! لماذا صدقت كلام زيد؟! بل لماذا أخبرت إمام المسجد بذلك؟! إن هي إلا ثوان حتى جر رجليه في تثاقل. قضى ساعات ذلك اليوم حزيناً كئيباً، وحينما جنحت الشمس إلى المغيب، واقترب معه رفع أذان المغرب، أحس بالحيرة تطوقه، والخوف من مواجهة إمام المسجد يحاصره حتى كاد ذلك يثنيه عن حضور صلاة الجماعة والموعظة، إلا أنه ما إن انطلق النداء الخالد يشق عنان السماء: الله أكبر.. الله أكبر.. حتى هب واقفاً، استغفر الله، واستعاذ به من الشيطان اللعين.. توضأ ثم التحق بجموع المصلين قبل بداية الموعظة بين العشاءين، أثار دهشة الجميع تقدمه نحو الإمام، حياه، بعدها اختلى به لدقائق، أخبره خلالها بما رأى وسمع، ثم عاد ليأخذ مكانه في الصف الأول. وكم ذرفت عيناه من دموع لما شرع الإمام يشرح بتفصيل سبب نزول قوله تعالى.. بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )(الحجرات 6) صدق الله العظيم .
الموضوع الاصلي
من روعة الكون