أزمة العقل العربي فى أقلام الانترنت
--------------------------------------------------------------------------------
فى مطلع الثمانينات من القرن الماضي كانت هناك معركة سياسية ساخنة للغاية بمصر .. شغلت الرأى العام كله بشكل فادح ..
وكانت الطلقة الأولى فى الأزمة عندما تم اغتيال الرئيس السادات فى العرض العسكري فى ذكرى أكتوبر عام 1981فى إثر أحداث جسام عصفت بمصر بعد أن ضاق الرئيس الراحل السادات بمعارضيه وعجزه عن التواصل معهم فأصدر قراره باعتقال ما يزيد عن ألفي شخص منهم وزراء سابقون ومفكرون كبار وكتاب ورجال أحزاب ..
وانتهى الأمر بالنهاية المأساوية باغتيال الرئيس السادات على يد أحد صغار ضباط الجيش بمعاونة تنظيم الجهاد
تلك السنوات التى أطلق عليها المفكر محمد حسنين هيكل إسم سنوات الغضب والتى شرح فى كتابه " خريف الغضب" أسباب ومقدمات تلك النهاية لتنفجر الزوبعة بعد صدور الكتاب بين الناصريين من جهة والساداتيين من جهة وبعض المثقفين الندرة ممن يمكن وصفهم بالمثقفين المستقلين وعلى رأسهم الدكتور فؤاد زكريا المفكر المعروف
ورد العشرات على هيكل سواء بالإختلاف أو الاتفاق حول وقائع كتابه خريف الغضب ومن بين تلك الردود كان كتاب فؤاد زكريا " كم عمر الغضب ـ هيكل وأزمة العقل العربي "
وفى هذا الكتاب تحدث فؤاد زكريا شارحا نقطة هامة وقع فيه المتناحرون حول كتاب هيكل ..
وهى أنهم جعلوا المقارنة تتم بين عبد الناصر والسادات باعتبارهما المرجعية فى حين أن المنطق يقول بمعرفة الحق أولا ثم تصحيح وتوصيف الأحداث بناء على موقعها من الحق المطلق .. ولذلك لم ينتقد فؤاد زكريا كتاب هيكل وما جاء من حقائق تاريخية ووقائع موثقة بل وجه مدفع الانتقاد لهيكل نفسه واستغرب منه الهجوم الكاسح على السادات وسياسته بالرغم من أن هيكل نفسه كان مخطط عملية مراكز القوى التى استقرت بالسادات فى حكم مصر .. كما أبدى فؤاد زكريا دهشته من مبرر هيكل فى ذلك عندما قال إن توجهات السادات لم تكن واضحة له سياسيا لأن هذا المبرر لا يقبل من سياسي عريق بحجم هيكل يعرف السادات معرفة تامة من أول أيام نظام يوليو بمصر
وكان الإنتقاد الثانى ـ وهو الأهم ـ من فؤاد زكريا لهيكل أن هذا الأخير رد على مهاجميه بسبب كتاب خريف الغضب بالقول أن الرؤساء ورجال الحكم لا يمكن الإحتجاج أمام مناقشة أعمالهم بأنهم صاروا فى رحاب الله أمواتا لأنهم شخصيات عامة تؤثر فى مسيرات أوطان .. وأبدى فؤاد زكريا تأييده المطلق لقول هيكل وهو قول صحيح .. لكن هيكل نفسه لم يعمل به عندما بدأت حدة الهجوم على عبد الناصر تتزايد عقب عام 1971 م فكتب هيكل يرد على ما كتب قائلا إن تلك الجسارة التى ظهرت أين كانت أيام عبد الناصر وأنه يستغرب الهجوم على عهده بتلك الضراوة لا سيما وأنه فى رحاب الله لا يملك ردا على الاتهام !
وأضاف فؤاد زكريا أن الأزمة ليست أزمة عبد الناصر والسادات ولكنها أزمة شاملة فى العقل العربي الذى رهن الحق بالرجال ولم يجعل الحق أولا ثم يعرف رجاله بعد ذلك واستغرب المفكر القدير أيضا أن يتورط المفكرون والأقلام الجادة فى اتخاذ المواقف بناء على انتماءات شخصية بالرغم من رسالتهم الكبري فى تربية الرأى العام
وتعد مقولة الدكتور فؤاد زكريا مدخلنا إلى قضية هذا المقال ..
وهى قضية أزمة المثقفين فى أقلام الانترنت .. وهى أزمة متنوعة الظواهر لكن مصدرها الحقيقي هو غياب المنطق والفكر وإيمان أقلام وإدرات المنتديات الثقافية بثوابت وضعوها مقياسا للتقدير وسعوا خلفها دون أن يكلف الواحد منهم نفسه دقيقة تأمل لمعرفة مدى منطقية تلك الثوابت وموضوع النقاش هنا يشمل المنتديات الثقافية الجادة بطبيعة الحال ..
وتلك الظواهر السلبية باختصار
* عدد المشاركات كمقياس لأبرز وأنشط الأعضاء
وهذا الداء يعصف ببعض الإدارات كما يتحكم فى غالبية أعضاء ورواد المنتديات الثقافية ..
وبالنسبة للإدرات يتمثل هذا الداء فيما يلي
فى الصفحة الرئيسية بأغلب المنتديات الثقافية ستجد قائمة منسقة تحمل فى أولها عنوانا يفيد بأن هذه القائمة هى قائمة أنشط الأعضاء ومعيار قياس النشاط هنا مرهونا بعدد مشاركات كل عضو وهذا العدد هو الذى يحدد موقعه من القائمة ..
ويجدر بنا الإشارة إلى أن عدد المشاركات يختلف عن عدد الموضوعات التى شارك بها العضو فالمشاركات تحتسب الموضوعات إلى جوار التعليقات التى يكتبها العضو بموضوعات غيره بغض النظر عن مضمون تلك التعليقات
ولا يساهم عدد المشاركات فى احتلال صاحبه لمركز متميز فى قائمة الأعضاء الأكثر نشاطا فقط بل يلعب دورا رئيسيا فى اختياره للإدارة كمشرف أو إدارى أو منحه أوسمة التقدير وما إلى ذلك ..
وتتضاعف الكارثة إذا علمنا أن عدد المشاركات ذاته أصبح وسيلة للتقدير حيث تطرح بعض المنتديات فى جوائز مسابقاتها الثقافية جائزة تتمثل فى إضافة عدد معين من المشاركات إلى العدَاد الإليكترونى الخاص بالعضو وتلك المشاركات بالطبع ليست مشاركات فعلية بل إفتراضية لأنها ليست موجودة بل هى تدخل إدارى عن طريق لوحة التحكم يضيف أرقاما إلى أرقام وفقط !
مع أن هذا الأسلوب الإدارى الخاطئ يلقي بظلاله على التأثر الفادح للأعضاء بهذا الأسلوب مما ينتج عنه بطبيعة الحال لهاث الأعضاء وراء زيادة عدد المشاركات بأى وسيلة وأى شكل طمعا فى الحصول على التقدير والمرتبة العليا أو الإشادة التى تتمثل فى استحسان وجود آلاف المشاركات فى عداد العضو حتى لو كان مجموع الفائدة منها يساوى صفرا ..
وكارثة الكوارث من ناحية التشجيع الإدارى لتكثيف المشاركات كما لا كيفا يتمثل فى البرمجة المسبقة لبعض صفحات بعض المنتديات وموضوعاته التى تتضمن تحميل مادة علمية أو تاريخية أو أدبية حيث يتم حجب خاصية التحميل إلا عن المشاركين فى الموضوع تحت تبرير أن الذى قام بجلب تلك المادة يستحق منا الشكر حتى لو كان بالأسلوب الجبري ..
وبالطبع يكون الشكر بالأسلوب المعهود ألا وهو تكرار الكلمات المادحة الجوفاء أو الرد برموز وحروف غير مفهومة وما إلى ذلك من ترهات مما يثبت قطعيا أن مسألة الجدية فى تلك المنتديات واعلانها الدائم بأن هدفها هو فائدة المنتسبين والزوار لوجه الله هى أمر بعيد تماما عن المنطقية والموضوعية لأن هذا الأسلوب يثبت تماما أن الهدف هنا هو الشكر والتقدير بغض النظر عن أى عمق شعورى بالرغبة فى إفادة الآخرين والاستفادة
ومن ناحية الأعضاء ..
فمع الأسف الشديد تتحكم فى عقولهم الرغبة فى زيادة مشاركاتهم لا موضوعاتهم ومن هنا ظهرت للوجود كارثة " مشكور " التى تمثل سرطانا يزيد يوما بعد يوم ويملأ صفحات المنتديات بما يشغل الفراغ لكنه لا يشغل سنتيمترا واحدا فى مساحة العقل ..!
ناهيكم عن أن معيار النجاح عند هذه النوعية من الأعضاء لا يتمثل فى سماع التقييم أو النقد الموضوعى بل يتمثل فى رؤية الموضوع وقد امتلأت صفحاته وزادت من أثر تخمة التعليقات دونما إلقاء بال إلى محتوى تلك التعليقات ..
فالأهم بالنسبة لكاتب الموضوع هو أن يزداد عدد التعليقات وعدد الزيارات حتى لو كان بالموضوع منافذ للنقد السلبي أو أخطاء يجب تصحيحها .. بل يأتى البعض منكرا على أى ناقد إبرازه لنقاط النقد السلبي تحت زعم أن الموضوع حصد العديد من التعليقات والإستحسان وكأن النقد السلبي للموضوع المتميز لا يهدف إلى ترفيع الموضوع ذاته والوصول به لدرجة الكمال بل يهدف أساسا إلى هدم نبوغه !
ومع كل تلك المظاهر كان طبيعيا أن نرى ما هو أشد عجبا من أقلام المفروض أنها أقلام جادة وواعية ومثقفة حيث يلجأ غير واحد إلى إستجداء أصدقائه ومعارفه ومعاتبتهم على عدم الدخول لموضوعه الجديد أيا كان محتواه والإشادة والتعليق هناك ..
وهى ظاهرة يجدر بنا أن نتأملها .. فبغض النظر عن أى موضوع فى مجال معين قد لا يحوز اهتمام من لا يميل إلى هذا المجال فمن الأهمية بمكان أن نتساءل هنا هل يكون العضو أو الكاتب الذى يستجلب أصدقائه ومعارفه لهذا الغرض صادقا بالفعل فى طلب زيارة الموضوع ونقده بحيادية
المنطق يقول بلا القاطعة بالطبع ..
لأن الهدف هنا واضح وهو جنى المدح والتزلف على نحو يشبع حالة عدم الثقة الكاسحة التى تحكم نفوس هذه النوعية من المواهب وتتسبب فى ضياع موهبتها مع التفاتها للمدح ولى عنقها عن النقد والتنمية ..
والسؤال الذى يطرح نفسه بشدة على الادارات والأعضاء على حد سواء ممن تجذبهم هذه المظاهر السلوكية الغير منطقيه
وهنا يجدر بنا أن نذكر أننا نتحدث عن المنتديات الثقافية الجادة والممتلئة بأقلام واعية وهادفة .. لأن غيرها لا يحوز أهميتنا وما كان ليؤثر فيهم النقد أو طلب الإعتدال
السؤال هو
هل يمكن بشيئ من المنطق أن نتأمل قليلا نسل أنفسنا أيهما أنفع لمنتدى ثقافي جاد له رسالته .. عضو يشارك كل يوم بألف مشاركة فلا تجد فيما يشارك به أى قدر من المعلومات إلا بقدر السكر فى ثمرة الدوم .. جرام سكر فى أحشاء كيلو من الخشب
أم العضو الذى يشارك مرة كل شهر وتأتى مشاركته أو موضوعه دراسة ثرية أو عملا ابداعيا نابغا أو موضوعا نقديا هادفا .. يرتفع بمستوى الأعمال بالمنتدى الى عنان السماء ؟!
وما دامت الاجابة منطقية فلماذا نتمسك بمظاهر بالية تعمق عكس الرغبة الحقيقية لأى ادارة جادة فنترك هؤلاء الذين تعد موضوعاتهم موزونة بميزان الماس ونلتفت بالاشادة الى من لا قيمة فكرية له أو لمشاركاته .. والأهم من ذلك لماذا لا نتخذ الإدارات واعية وهادفة سبل التشجيع والاشادة وتعريف وافهام الأعضاء بقيمة القلم الحقيقي .. عن طريق تسليط الضوء على أولئك الذين يشاركون قليلا ويمتعون كثيرا ..
لينتهج بقية الأعضاء هذا النهج فتصبح صفحات المنتدى بأكملها فى الموضوعات وفى التعليقات عبارة عن مجمع للحكمة والعلم والأدب والفكر وذلك بأساليب غاية فى البساطة ..
منها انهاء أسلوب قائمة النشطين بناء على عدد المشاركات وقصرها على عدد الموضوعات أو إلغائها ..
منع التعليقات التى تتخذ أسلوب مشكور منعا نهائيا والتنبيه على الأعضاء بعدم المشاركة فى موضوع إلا اذا كانت المشاركة تحمل استفسارا أو نقدا أو توضيحا أو إضافة وليس هذا صعبا بل بالعكس لا يوجد كاتب مهما كانت براعته يستطيع استيفاء سائر جوانب موضوع ما مهما حاول ذلك وفى الثقافة لا عمالقة ..
وإن كان لابد من فتح الطريق أمام الشكر أو المدح فليكن الشكر فى طيات الفائدة أو يأتى بتوضيح هدف الشكر فيذكر العضو أنه استفاد كذا وكذا ولذلك يشكر صاحب الموضوع
أما بالنسبة للأعضاء وأصحاب الأقلام فهؤلاء لهم من التوجيه قدر أعلى من الإدارات فيجب أن يعرف كل كاتب أو موهوب أن التقييم الحقيقي ليس مقصورا على عدد المشاركات بقدر ما هو مرهون بعاملين أساسيين ..
النقد والاجادة فى الأعمال الإبداعية .. والفائدة والنقاش فى الأعمال الفكرية ..
وهناك موضوعات تحوز عددا هائلا من الزيارات بينما يكون التعليق بها لا بتجاوز تعلقين أو أقل .. ومثلا هناك موضوع سياسي باحدى المنتديات بلغ عدد زواره ما يجاوز ألفي زائر وقارئ بينما التعليقات عليه صفر .. !
فهل يمكن القول بأنه موضوع قليلٌ فى قيمته وفائدته .. أم هو موضوع نابغ أدى ما عليه من الفائدة ويحمل شهادة إجادة لصاحبه تحفزه ليبذل اكثر وأكثر ..
وبالنسبة للكاتب الذى يريد أن يشارك بموضوع ما فيجب ألا تكون المشاركة مجرد إثبات للوجود دونما اكتساب صفة الخلود بمعنى أن تعليقك لو كان تعليقا موزونا وحاكما ومحكما من الممكن أن يسحب البساط من كاتب الموضوع ذاته ..
وعليه فعندما تأتى الرغبة بالمشاركة فيجب على المشارك قبل أن يضع يده على أزرار لوحة المفاتيح أن يضعها أولا على عقله فيسأل نفسه هل الموضوع الماثل أمامه يحوز ما يستجلب الإهتمام به وإذا كان كذلك فما هو مدى معلوماته عن هذا الموضوع وإلى أى مدى يحمل هذا الموضوع معلومة جديدة لا يعرفها المشارك والأهم من هذا ما الذى غفل عن ذكره كاتب الموضوع ومن الممكن أن يضيف المشارك إليه .. وعند الإجابة وبعد البحث يعود المشارك هنا للمشاركة ويطرح شكره كيف يشاء ومعه إضافة قيمة تضيف للمشارك قبل أن تضيف للموضوع الأصلي وصاحبه .. كما يُـكسب هذا الأسلوب احتراما وتقديرا من كافة الأقلام لهذا القلم الذى لا يطرح مشاركة إلا وكان فيها نفع وفائدة ..
والمثير فى الأمر ..
أن أسلوب الثقل فى المشاركات يمنح صاحبه الشهرة والمكانة التى يشتاق اليهما ويبذل المشاركات العديدة لأجل ذلك فلا ينالها .. لأن الجدية والفائدة عندما تحكم أى قلم .. يكون طبيعيا أن تفسح له بقية الأقلام مقعد الريادة بينها باعتراف الجميع ..
وعندما يكون للكاتب هذا الأسلوب فى طرح الموضوعات أو المشاركات .. يكون طبيعيا ساعتها أن يفخر بعدد موضوعاته أو مشاركاته ويحتفل ببلوغها الألف والألفين كيفما شاء لأن كل حرف سطره كان يحمل فى أعماقه معنى وفائدة وهدف ..
أما الذى يدفع موضوعاته ومشاركاته لتصبح كائنا محقونا بهرمونات تعجل بنموه على غير المسار الطبيعى فمثله كمثل الفواكه التى تحقن بهرمونات النمو فتجد التفاحة مثلا فى ضخامة ثمرة البطيخ لكن طعمها لا يختلف عن طعم الخيار !
مقاله اعجبتني فنقلتها بتصرف
الموضوع الاصلي
من روعة الكون