الحديث عن نتائج حرب حزيران 1967، أو ما يسمى " بالنكسة "، هو حديث عن مرحلة بالغة التعقيد لا يمكن فيها لأي تبسيط إلا أن يكون مخّلاً، ولأي تعميم إلا أن يكون مضللاً.
فالقول مثلاً أن تلك "النكسة" كانت المدخل لكل ما شهدناه من تراجع في أوضاعنا العربية يتجاهل مسألتين في آن واحد: فهل كان العرب قبل 1967 في حال تقدم حتى باتوا بعدها في حال تراجع، بل هل كانت "النكسة" نفسها لتحصل لو أن الأوضاع العربية كانت سوّية ومحصنة، بل ألم تكن "النكسة" نفسها في عام 1967 هي نتاج نكسات وارتدادات سبقتها كالانفصال المشؤوم عام 1961، الذي حصل في دولة الوحدة الأولى بين مصر وسوريا، أو كالشجار الدموي الذي وقع بين القوميين والشيوعيين في عراق ما بعد 14 تموز 1958 ثم الانقسام الذي عصف بوحدة الصف القومي في العراق وخارجه بعد 8 شباط 1963، أو كحرب اليمن المديدة التي استنزفت قدرات مصر وجيشها على مدى سنوات في الستينات، أو احتدام الصراع بين القيادة الناصرية والإخوان المسلمين الذي أدى عام 1966 إلى إعدام بعض قادة الإخوان وفي مقدمهم الشخصية الإسلامية البارزة سيّد قطب، أو بشكل خاص ذاك التجاذب الانقسامي الحاد الذي طغى على العلاقات العربية – العربية بحيث ضاعت الأولويات، وساد العابر من الخلافات على الرئيسي من التناقضات.
فالنكسة إذن هي طفرة نوعية وقعت بعد تراكمات كمية سبقتها، وهي محطة في مسار انحداري أطلق تداعيات ومفاعيل بالغة الخطورة.
وإذا كان المنطق السائد لدى البعض في وطننا العربي، هو منطق سوداوي غارق في أوحال الهزائم والأوجاع والمحن العربية، وإذا كان المنطق المعاكس لدى البعض الآخر ظفراوياً لا يرى في حياتنا العربية إلا لحظات النصر وصرخات الابتهاج، فان المنطق الموضوعي والأكثر توازناً هو ذلك الذي يرى الأمة في سياق تاريخي متعرّج ومركب، فيه النكسة وفيه الصحوة، فيه الانكسار وفيه الانتصار، فيه الانهزام والاستخذاء وفيه المقاومة والإباء.
في هذا السياق المركب أيضاً تعلو رايات وتنخفض رايات، تتقدم تيارات وتتراجع تيارات، تطفو على السطح أسماء وحركات ومنظمات وسرعان ما يخبو نجمها لتبرز أسماء جديدة وحركات ومنظمات لم يكن لها ذكر من قبل.
لذلك ينبغي أن نحاذر القراءة المجتزأة للمرحلة التي تلت الخامس من حزيران أو التي مهّدت لها، فمثل هذه القراءة المجتزأة تحاول أن تقف أمام مرحلة دون أخرى، وتركز على تيار دون آخر، وتقرأ كتاب الأمة من بعض عناوينه صفحاته وليس من كل فصوله والكلمات.
السؤال إذن يبقى هل أوقفت نكسة الخامس من حزيران حركة المقاومة في الأمة أم الهبتها، هل أطلقت هذه النكسة في نفوس أبناء الأمة مشاعو الاستكانة والخنوع والإذعان أم الهبت فيهم روح المقاومة والتصدي والإقدام ؟
السؤال الآخر المرتبط بهذا السؤال: هل توقف الصراع العربي الصهيوني بعد هزيمة ثلاثة جيوش عربية رئيسية، ومن خلفها هزيمة النظام الرسمي العربي، أم أن هذا الصراع مازال مستمراً حتى الساعة، رغم كل ما أُقر من اتفاقات، وسال من دماء، وانفجرت من حروب، وسقط من حكام، بل ألم يجد العدو الصهيوني، الذي بلغ ذروته في الانتصار القياسي الساحق على الجيوش العربية قبل أربعين عاماً، نفسه منذ ذلك الحين عاجزاً عن تحقيق أي انتصار عسكري صاف، بل انه في كل الهزائم التي لحقت بجيشه منذ حرب تشرين 1973 إلى حرب تموز ضد لبنان عام 2007، وما بينهما، كان يحاول أن يأخذ بالسياسة، وبألاعيبها ومناوراتها وبالدعم الأمريكي والغربي، ما لم يستطع أن يناله بالمواجهة.
فإذا كان الأمر هكذا، وهو بالطبع كذلك، ينبغي النظر إذن إلى كل القضايا المتصلة بهذا التيار أو ذاك، وفق الرؤية العامة للمشهد لا وفق رؤية محددة بمكان أو زمان محددين.
فالحديث عن فشل القوميين يبدو صحيحاً إذا كان المقصود ممارسات أو سياسات أو أنظمة أو حتى أحزاب أو حركات احتارت في الأولويات، وقايضت بين الأهداف، واستبدلت البرامج المتكاملة بالشعارات، ومارست الإقصاء بديلاً عن التكامل، والتفرد بدلاً من المشاركة، كما لا يبدو هذا الحديث دقيقاً إذا كان المقصود بالفشل الفكرة القومية الجامعة التي تبدو اليوم الحاجة ماسة إليها في زمن التكتلات الكبرى التي تقوم في العالم ، بل تبدو هي الضمانة في زمن التفتيت والتقسيم والفدرلة التي يقودها المشروع الصهيو – أمريكي في المنطقة، ناهيك عن بروز سلامة هذه الفكرة مع انكشاف المخاطر التي يحملها فصل الأمن الوطني عن الأمن القومي، واستحالة التنمية القطرية في غياب التكامل العربي، واهتزاز الاستقرار المحلي إذا ما اهتز الاستقرار الإقليمي برمته.
وفي الحديث هنا عن فشل القوميين أو صعودهم في مقابل التيارات الأخرى ينبغي إن نرصد ظهور عروبة جديدة، أو رؤية قومية متجددة، بدأت مع مراجعة التجربة القومية ذاتها منذ العام 1967، وتوصلت منذ أواسط الثمانينات إلى جملة خلاصات جوهرية لابد من الوقوف أمامها.
أول الخلاصات إن تعريف "القومي العربي" أو "العروبي" لم يعد محصوراً بمدارس أو أحزاب أو جماعات قومية كلاسيكية معروفة بعينها، بل بات يتسع ليشمل كل تيار فكري أو جماعة أو منبر أو فرد يلتزم بالمشروع النهضوي الحضاري العربي وعناصره الست (الوحدة العربية، الديمقراطية والشورى وحقوق الإنسان، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، التجدد الحضاري)، ولقد بات لهذا التوسع في التعريف أطره ومؤسساته في مجالات الحوار والتشاور والتلاقي والتفاعل التي يلتقي فيها العروبي الكلاسيكي مع الإسلامي العروبي، مع الماركسي الوحدوي، مع الليبرالي المحصن ضد فيروس "ليبراية المحافظين الجدد" الذي عاث في عقول بعض مثقفينا فساداً.
أي بتنا نرى في المؤتمر القومي العربي، والقومي – الإسلامي، ومؤتمر الأحزاب العربية وملتقى الحوار العربي الثوري الديمقراطي ومؤسسة القدس، ومخيمات الشباب، القومي العربي، والاتحادات المهنية والجمعيات المتخصصة، ومؤسسة القدس، ومخيمات الشباب القومي العربي، والاتحادات المهنية والجمعيات المتخصصة، تلاقياً بين أبناء كل هذه التيارات ممن أدركوا حدة المخاطر التي تهدد الجميع دون استثناء، وممن تعلّموا من تجاربهم المريرة أن استفراد تيار سيقود إلى استفراد التيار الآخر، وان "الثور الأبيض" سيؤكل حتماً يوم يؤكل "الثور الأسود".
الخلاصة الثانية: إن العروبة الجديدة أو المتجددة، أي العروبة الجامعة، هي عروبة التمسك بالديمقراطية ورفض مقايضتها بأي هدف عزيز آخر، لأنها ضمانة كل الأهداف الأخرى وصمام الأمان في مسيرة تحقيقها.
والعروبة الجديدة هي عروبة التكامل مع الإسلام الذي هو عقيدة غالبية أبناء الأمة، وهو أيضاً الخزان الروحي والحضاري والثقافي والتاريخي لكل أبناء هذه المنطقة، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، عرباً كانوا أم غير عرب.
وهذه العروبة الجديدة هي أيضاً عروبة القدرة على فهم الخصوصيات التي تتميز بها مكونات الأمة، أقطاراً كانت أم جماعات أم أقواماً، فلا تبقى فقط عروبة التركيز على التماثل بين مكونات الأمة، بل تسعى أيضاً إلى فهم ما يميّز هذه المكونات عن بعضها في الوقت نفسه.
والعروبة الجديدة هي عروبة الانفتاح على العصر، وعروبة التفاعل مع العالم، وبالتالي فالخطاب العربي، والممارسة العربية، يجب أن يخدما ذاك الانفتاح، وهذا التفاعل، فلا نسقط في سهولة تتيحها لنا إثارة العصبيات، أو في تعصب ينبع من جهل وتخلّف وانغلاق وإدارة الظهر لكل ما يجري حولنا في عالمنا المعاصر.
والعروبة الجديدة هي عروبة الحفاظ على الوحدة الوطنية، وفهم المشاعر الوطنية، لأن العروبة هي فيض في الوطنية لا نقص فيها، واكبر إساءة للعروبة هي آن نضعها في مواجهة المسألة الوطنية أو في موقع التنكر لتجلياتها وتعبيراتها، فكما أن الوحدة الوطنية في كل قطر هي المدخل لتعزيز الوحدة القومية على مستوى الأمة، فان العروبة، المتكاملة مع الإسلام والمدركة لدور غير المسلمين في صياغة الحضارة العربية الإسلامية، هي ضمانة الوحدة الوطنية في العديد من أقطار الأمة، ولعل حرب الأمريكيين وعملائهم على هوية العراق العربية والإسلامية كانت الممهد الضروري لحربهم على وحدة العراق واستقلاله ومؤسساته.
أما الخلاصة الثالثة: التي خرجت بها العروبة الجديدة، لا سيّما بعد الخامس من حزيران، فهو أن المقاومة هي الطريق الأسلم والأقصر لتحرير الأرض والإنسان في هذه الأمة، وان انخراط أبناء الأمة في هذه المقاومة بمستوياتها المتعددة، العسكرية والثقافية والسياسية والإعلامية والتربوية والاقتصادية، هو طريق الأمة إلى التحرر والوحدة في آن معاً.
ولا حاجة للتذكير أن الأمة لم تسقط خيار المقاومة ضد المستعمر الأجنبي منذ نهاية القرن الثامن عشر (مع غزوة نابليون) وحتى الساعة، وقد تكثف تعلقها بهذا الخيار بشكل خاص بعد الخامس من حزيران 1967، وبل اتسعت دائرة المقاومة لتشمل أكثر من قطر عربي وإسلامي سواء عبر المقاومة أو الممانعة أو المساندة، فنجحت هذه المقاومة في أن تربك العدو، الصهيوني أو الأمريكي، رغم تفوقه، في هزائم أو اهتزازات بدأت مع معركة الكرامة في الأردن (آذار 1968) لتتوج بالنصر المؤزر مع معركة الجنوب اللبناني في تموز 2007 مروراً بحرب تشرين المجيدة 1973 المجيدة، وانتفاضة فلسطين 1998، وتحرير جنوب لبنان غير المشروط عام 2000.
وعظمة هذه المقاومة لا تنحصر بما ألحقت بالعدو الصهيوني من أوجاع وخسائر، وهزائم أحياناً، بل أنها أخذت تتوسع لتشمل حلفاء هذا العدو الذين هبوا لنجدة قاعدتهم الأمامية (الكيان الصهيوني) وقد بدأت دعائمها بالاهتزاز بفعل انتفاضة فلسطين ومقاومة لبنان، فوجدوا أنفسهم عالقين في أفخاخ المقاومة العراقية والأفغانية والصومالية، وليدركوا ان الكيان الذي أرادوه رأس جسر لنفوذهم في المنطقة قد بدأ يتحول إلى عبء متفاقم عليهم وعلى الصعد العسكرية والاقتصادية والإستراتيجية والأخلاقية، وهو أمر بدأ الأمريكيون يلمسونه، ولو بشكل محدود، ويدركون مخاطره على غير مستوى.
وهكذا وجدنا أن شعارات من نوع "ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" و "المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى وستبقى"، و "صراعنا مع العدو صراع وجود لا صراع حدود"، و "فلسطين لا تحررها الحكومات بل العمل الشعبي المسلح" (وهي شعارات أطلقها قادة ورموز ومفكرون قوميون بارزون)، تعود اليوم لتتصدر ساحة النضال العربي والإسلامي، لتؤكد أن امتنا تقف وراء كل من يجاهد من أبنائها، أياً كانت المدرسة العقائدية والفكرية التي ينتمي إليها، وان هؤلاء المجاهدين يجاهدون في ظل تلك الشعارات غير آبهين بمن أطلقها ما دامت تصب في الاتجاه الصحيح.
وبهذا المعنى فان نكسة الخامس من حزيران 1967، كانت كاشفة لمكامن القوة والضعف في كل التيارات، مسلطة الضوء على طبيعة التحديات التي تواجا الأمة، ونوعية الاستجابة المطلوبة لهذه التحديات.
فهل بات العدو الصهيوني أكثر أمناً بعد تلك النكسة التي احتل فيها من الأرض الفلسطينية والعربية أضعاف مساحة كيانه المصطنع أصلاً؟ أم انه بات محاصراً ومهدداً في أمنه الداخلي والاستراتيجي بعد أربعين عاماً على ذلك "النصر الساحق" الذي اعتقد انه "نصر ابدي"؟.
ثم هل باتت امتنا أكثر انخراطاً في معركة المواجهة مع المحتلين، صهاينة أم غير صهاينة، مما كانت عليه قبل أربعين عاماً، وقد رأينا كيف أن مصير العالم برمته يتقرر اليوم في ضوء مصير الاحتلال الأمريكي والصهيوني في هذه المنطقة.
حين نجيب بدقة على هذه الأسئلة، ندرك أن خسارة تيار من تيارات الأمة لحساب تيار أخر ليست خسارة ما دامت الأمة رابحة، والحائر بين هذا التيار أو ذلك ليس بحائر.
فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد رفض تفضيل عربي على أعجمي إلا بالتقوى، فإنا علينا اليوم ألا نفضل عربي على آخر إلا بالمقاومة.
فالإسلامي أو اليساري أو الليبرالي المجاهد ضد أعداء الأمة يبقى اقرب إليّ، أنا القومي العربي، بكثير من "دعاة القومية" المنظرين للخنوع باسم الواقعية السياسية، وللاذعان بسبب "الحسابات الدقيقة"، وللمرتهنين لإرادة الأجنبي على حساب أوطانهم، وللمبررين للقمع والاستبداد على حساب الحرية والمشاركة وحقوق الإنسان.
معن بشور
المصدر : www.alamal-tv.ps
الموضوع الاصلي
من روعة الكون