>>لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي.. ما زلت أذكر تلك
>>الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في إحدى الاستراحات.. كانت
>>سهرة مليئة بالكلام الفارغ.. بل بالغيبة والتعليقات المحرمة... كنت
>>أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم.. وغيبة الناس.. وهم يضحكون.
>>أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً..:mo13:
كنت أمتلك موهبة عجيبة في
>>التقليد.. بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر
>>منه.. أجل كنت أسخر من هذا وذاك.. لم يسلم أحد منّي أحد حتى أصحابي..
>>صار بعض الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني.
>>أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسوّل في السّوق... والأدهى
>>أنّي وضعت قدمي أمامه فتعثّر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول..
>>وانطلقت ضحكتي تدوي في السّوق..:Copy (2) of Copy of
>>عدت إلى بيتي متأخراً كالعادة.. وجدت زوجتي في انتظاري.. كانت في حالة
>>يرثى لها.. قالت بصوت متهدج: راشد.. أين كنتَ ؟
>>قلت ساخراً: في المريخ.. عند أصحابي بالطبع ..
>>كان الإعياء ظاهراً عليها.. قالت والعبرة تخنقها: راشد… أنا تعبة جداً
>>.. الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا ..
>>سقطت دمعة صامته على خدها.. أحسست أنّي أهملت زوجتي.. كان المفروض أن
>>أهتم بها وأقلّل من سهراتي.. خاصة أنّها في شهرها التاسع .
>>حملتها إلى المستشفى بسرعة.. دخلت غرفة الولادة.. جعلت تقاسي الآلام
>>ساعات طوال.. كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر.. تعسرت ولادتها..
>>فانتظرت طويلاً حتى تعبت.. فذهبت إلى البيت وتركت رقم هاتفي عندهم
>>ليبشروني.
>>بعد ساعة.. اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم ذهبت إلى المستشفى
>>فوراً.. أول ما رأوني أسأل عن غرفتها.. طلبوا منّي مراجعة الطبيبة
>>التي أشرفت على ولادة زوجتي.
>>صرختُ بهم: أيُّ طبيبة ؟! المهم أن أرى ابني سالم.
>>قالوا، أولاً راجع الطبيبة ..
>>دخلت على الطبيبة.. كلمتني عن المصائب .. والرضى بالأقدار .. ثم قالت:
>>ولدك به تشوه شديد في عينيه ويبدوا أنه فاقد البصر !!
>>خفضت رأسي.. وأنا أدافع عبراتي.. تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمى الذي
>>دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس.
>>سبحان الله كما تدين تدان ! بقيت واجماً قليلاً.. لا أدري ماذا أقول..
>>ثم تذكرت زوجتي وولدي .. فشكرت الطبيبة على لطفها ومضيت لأرى زوجتي ..
>>لم تحزن زوجتي.. كانت مؤمنة بقضاء الله.. راضية. طالما نصحتني أن أكف
>>عن الاستهزاء بالناس.. كانت تردد دائماً، لا تغتب الناس ..
>>خرجنا من المستشفى، وخرج سالم معنا. في الحقيقة، لم أكن أهتم به
>>كثيراً. اعتبرته غير موجود في المنزل. حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة
>>لأنام فيها. كانت زوجتي تهتم به كثيراً، وتحبّه كثيراً. أما أنا فلم
>>أكن أكر، لكني لم أستطع أن أحبّه !
>>كبر سالم.. بدأ يحبو.. كانت حبوته غريبة.. قارب عمره السنة فبدأ يحاول
>>المشي.. فاكتشفنا أنّه أعرج. أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر. أنجبت زوجتي
>>بعده عمر وخالداً.
>>مرّت السنوات وكبر سالم، وكبر أخواه. كنت لا أحب الجلوس في البيت.
>>دائماً مع أصحابي. في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ..
>>لم تيأس زوجتي من إصلاحي. كانت تدعو لي دائماً بالهداية. لم تغضب من
>>تصرّفاتي الطائشة، لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم
>>واهتمامي بباقي إخوته.
>>كبر سالم وكبُر معه همي. لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى
>>المدارس الخاصة بالمعاقين. لم أكن أحس بمرور السنوات. أيّامي سواء ..
>>عمل ونوم وطعام وسهر.
>>في يوم جمعة، استيقظت الساعة الحادية عشر ظهراً. ما يزال الوقت مبكراً
>>بالنسبة لي. كنت مدعواً إلى وليمة. لبست وتعطّرت وهممت بالخروج. مررت
>>بصالة المنزل فاستوقفني منظر سالم. كان يبكي بحرقة!
>>إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً. عشر
>>سنوات مضت، لم ألتفت إليه. حاولت أن أتجاهله فلم أحتمل. كنت أسمع صوته
>>ينادي أمه وأنا في الغرفة. التفت ... ثم اقتربت منه. قلت: سالم! لماذا
>>تبكي؟!
>>حين سمع صوتي توقّف عن البكاء. فلما شعر بقربي، بدأ يتحسّس ما حوله
>>بيديه الصغيرتين. ما بِه يا ترى؟! اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني!!
>>وكأنه يقول: الآن أحسست بي. أين أنت منذ عشر سنوات ؟! تبعته ... كان
>>قد دخل غرفته. رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه. حاولت التلطف معه
>>.. بدأ سالم يبين سبب بكائه، وأنا أستمع إليه وأنتفض.
>>أتدري ما السبب!! تأخّر عليه أخوه عمر، الذي اعتاد أن يوصله إلى
>>المسجد. ولأنها صلاة جمعة، خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل. نادى
>>عمر.. ونادى والدته.. ولكن لا مجيب.. فبكى.
>>أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين. لم أستطع أن أتحمل
>>بقية كلامه. وضعت يدي على فمه وقلت: لذلك بكيت يا سالم !!..
>>قال: نعم ..
>>نسيت أصحابي، ونسيت الوليمة وقلت: سالم لا تحزن. هل تعلم من سيذهب بك
>>اليوم إلى المسجد؟
>>قال: أكيد عمر .. لكنه يتأخر دائماً ..
>>قلت: لا .. بل أنا سأذهب بك ..
>>دهش سالم .. لم يصدّق. ظنّ أنّي أسخر منه. استعبر ثم بكى. مسحت دموعه
>>بيدي وأمسكت يده. أردت أن أوصله بالسيّارة. رفض قائلاً: المسجد
>>قريب... أريد أن أخطو إلى المسجد - إي والله قال لي ذلك.
>>لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلت فيها المسجد، لكنها المرّة الأولى
>>التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على ما فرّطته طوال السنوات الماضية.
>>كان المسجد مليئاً بالمصلّين، إلاّ أنّي وجدت لسالم مكاناً في الصف
>>الأوّل. استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى بجانبي... بل في الحقيقة أنا
>>صليت بجانبه ..
>>بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالم مصحفاً. استغربت!! كيف سيقرأ وهو
>>أعمى؟ كدت أن أتجاهل طلبه، لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره. ناولته
>>المصحف ... طلب منّي أن أفتح المصحف على سورة الكهف. أخذت أقلب
>>الصفحات تارة وأنظر في الفهرس تارة .. حتى وجدتها.
>>أخذ مني المصحف ثم وضعه أمامه وبدأ في قراءة السورة ... وعيناه
>>مغمضتان ... يا الله !! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة!!
>>خجلت من نفسي. أمسكت مصحفاً ... أحسست برعشة في أوصالي... قرأت
>>وقرأت.. دعوت الله أن يغفر لي ويهديني. لم أستطع الاحتمال ... فبدأت
>>أبكي كالأطفال. كان بعض الناس لا يزال في المسجد يصلي السنة ... خجلت
>>منهم فحاولت أن أكتم بكائي. تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ...
>>لم أشعر إلا ّ بيد صغيرة تتلمس وجهي ثم تمسح عنّي دموعي. إنه سالم !!
>>ضممته إلى صدري... نظرت إليه. قلت في نفسي... لست أنت الأعمى بل أنا
>>الأعمى، حين انسقت وراء فساق يجرونني إلى النار.
>>عدنا إلى المنزل. كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم، لكن قلقها تحوّل
>>إلى دموع حين علمت أنّي صلّيت الجمعة مع سالم ..
>>من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد. هجرت رفقاء السوء ..
>>وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد. ذقت طعم الإيمان معهم. عرفت
>>منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا. لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر.
>>ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر. رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر لي
>>غيبتي وسخريتي من النّاس. أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي. اختفت
>>نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي. الابتسامة ما عادت
>>تفارق وجه ابني سالم. من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها. حمدت الله
>>كثيراً على نعمه.
>>ذات يوم ... قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق
>>البعيدة للدعوة. تردّدت في الذهاب. استخرت الله واستشرت زوجتي. توقعت
>>أنها سترفض... لكن حدث العكس !
>>فرحت كثيراً، بل شجّعتني. فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون
>>استشارتها فسقاً وفجوراً.
>>توجهت إلى سالم. أخبرته أني مسافر فضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً...
>>تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف، كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما
>>سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي. اشتقت إليهم كثيراً ... آآآه كم
>>اشتقت إلى سالم !! تمنّيت سماع صوته... هو الوحيد الذي لم يحدّثني منذ
>>سافرت. إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم.
>>كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه، كانت تضحك فرحاً وبشراً، إلاّ آخر
>>مرّة هاتفتها فيها. لم أسمع ضحكتها المتوقّعة. تغيّر صوتها ..
>>قلت لها: أبلغي سلامي لسالم، فقالت: إن شاء الله ... وسكتت...
>>أخيراً عدت إلى المنزل. طرقت الباب. تمنّيت أن يفتح لي سالم، لكن
>>فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره. حملته بين ذراعي
>>وهو يصرخ: بابا .. بابا .. لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت.
>>استعذت بالله من الشيطان الرجيم ..
>>أقبلت إليّ زوجتي ... كان وجا متغيراً. كأنها تتصنع الفرح.:sm201:
>>تأمّلتها جيداً ثم سألتها: ما بكِ؟
>>قالت: لا شيء .
>>فجأة تذكّرت سالماً فقلت .. أين سالم ؟
>>خفضت رأسها. لم تجب. سقطت دمعات حارة على خديها...
>>صرخت بها ... سالم! أين سالم ..؟
>>لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد يقول بلغته: بابا ... ثالم لاح
>>الجنّة ... عند الله...
>>لم تتحمل زوجتي الموقف. أجهشت بالبكاء. كادت أن تسقط على الأرض، فخرجت
>>من الغرفة.
>>عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين فأخذته زوجتي
>>إلى المستشفى .. فاشتدت عليه الحمى ولم تفارقه ... حين فارقت روحه
>>جسده ..
>>إذا ضاقت عليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك بما حملت فاهتف ... يا
>>الله
>>إذا بارت الحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، نادي ...
>>يا الله
>>
>>لا اله الا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم
>>
الموضوع الاصلي
من روعة الكون