جئتُ أَقصُّ عليكم أَخْباري
معَ تلكَ الطِّفْلَهْ
تَستغرقُ تلكَ الأخبارُ
فُصولاً مِنْ عُمري
لكنْ بلعَتْ عُمْري كلَّهْ
تُدْعى فاطِمَةً تلكَ الطِّفلَهْ
كنتُ أراها مِنْ أكثرَ مِنْ عِشْرينَ سَنَهْ
تركضُ نحوَ المدرسَةِ صَباحاً
ضِحْكَتُها أَعْذَبُ مِنْ شَدْوِ الطَّيْرِ
وأَنْقى مِنْ دَمْعِ سَحابٍ أَتَشَهَّى
باسْتِمْرارٍ هَطْلَهْ
أدمنتُ أَنا رُؤْيَتَها
وهي تُغادِرُ مَنْزِلَها
لِتَعودَ مَساءً
التُّفاحُ يُخَبِّئُ نُكْهَتَهُ في خَدَّيْها
وأَرى حَبَّةَ كَرَزٍ
فُلِقَتْ نِصْفَيْنِ على شَفَتَيْها
وإذا ابْتَسَمَتْ
تَرْسُمُ في مَبْسَمِها فُلَّهْ
تَرْفَعُ لي قامَتَها أَحْياناً لأُقَبِّلَها
وَبِأَحْيانٍ تَرْسُمُ لي مِنْ بُعْدٍ شَكْلَ الْقُبْلَهْ
كانَتْ تَضْحَكُ لي وَتُناديني: عَمُّو
إِني أَحْبَبْتُ حَكاياكَ
فَهَلْ تَسْهَرُ في مَنْزِلِنا اللَّيْلَهْ؟
وأَزورُ الطِّفلَة فاطِمَةً في مَنْزِلِ أَبَوْيَها
أُنْشدُها شِعْري
وأُفَصِّلُ أَخْباري بَيْنَ يَدَيْها
مِنْ بَدْءِ العُمر إِلى تِلْكَ اللَّيْلَهْ
أذْكُرُ كيفَ أَحَدِّثُها عَنْ أَسْفاري
فَوَصَفْتُ لَها صَنْعاءَ وَبَغْدَادَ وطَهْرانْ
وَرَسَمْتُ على دَفْتَرِها صورَةَ بَرْقَهْ
وَبَساتينَ الزَّيتونِ بتونُسَ وَالْواحاتْ
كنتُ أُحَدِّثُها عَنْ أَهْلِ الْمَغْربِ
مِنْ طَرَفِ الصَّحْراءِ إلى تِطْوانْ
وَأُريها ما في ذاكِرَتي
مِنْ أَسْماءِ الْحاراتِ بِوَهْرانْ
أَحْكي لِلطِّفْلَةِ فاطِمَةٍ
أَشْياءَ عَنِ الْفُسطاطِ وأُسْوانْ
ونَخيل الأَحْساءِ وَرُمّانِ الطائِفِ
والزَّهْرِ الْبَرِّيِّ بِنَجْرانْ
كانَتْ فاطِمَةٌ تُصْغي
وَتُغَمِّسُ عَيْنَيْها بِشُقوقِ جَبيني
وَتَجاعيدِ الزَّمَنِ بِوَجْهي
وَتُلَمْلِمَ ضِحْكَتُها
باقاتِ الثَّلْجِ الْمُتَساقِطَةَ عَلى رَأْسي
كانَتْ تُبْحِرُ بَسْمَتُها في عَيْنَيَّ طَويلاً
حتى أَنْسى أنيِّ بَيْنَ يَدَيْ طِفْلَهْ
وَأُسائِلُ نَفْسي:
هَلْ فاطِمَةٌ حَقّاً طِفْلَهْ؟
وَإِذا كُنْتُ بَعيداً عَنْها
أَسْمَعُ موسيقى صَنْدَلِها
وَهُوَ يُزْغْرِدُ فَوْقَ الدَّرْبِ
فَأَخْرجُ مِنْ داري لأَراها
وَأَعُدُّ خُطاها
تَحْتَ غُروبِ الشَّمْسِ النَّقْلَةَ بَعْدَ النَّقْلَهْ
* * *
وَمُفاجَأَةً.. كَبِرَتْ تِلْكَ الطِّفْلَهْ
واتَّسَعَتْ عَيْناها
حَتَّى ذُعِرَ الْكُحْـلُ عَلى الأَهْدابْ
عَيْنا فاطِمَةٍ أَعْمَقُ مِنْ بَحْرٍ
أَنْدى مِنْ حَقْلٍ
تَمْلَؤُهُ الخُضْرَةُ وَالأَعْنابْ
وكَأَنَّ كِيانَ الْماضي فيها غابْ
واسْتُبْدِلَ شَكْلُ إِهابٍ بِإِهابْ
وَرَبَتْ وَاهْتَزَّ الحُسْنُ بِقامَتِها
لأَراها أَطْوَلَ مِنْ نَخْلَهْ
وَالْقَدُّ يَميسُ بما يَحْمِلُهُ
مَوْكِبَ حُسْنٍ كَالْكَوْكَبِ يَنْشُرُ حِمْـلَهْ
لَوْنُ الْكَرَزِ على شَفَتَيْها أَمْسى رُطَباً
يُخْفي باللَّعسِ حَلاوَتَهُ
وكَأنَي لَمْ أَرَ مِثْلَهُ
ضاقَ الْخَصْرُ
ونَهَضَتْ أَشْياءٌ تَحْتَ الْخَصْرْ
شَهَقَ الصَّدْرُ
وخَفَتَتْ أَشْياءٌ تَحْتَ الصَّدْرْ
وَالْتَمَس الصُّبْحُ مَساراً حْول النَّحْرِ
فَمَنْ أَبَصَرَ فَجْراً
يُخْفي تَحْتَ جَدائِلِ فاطِمَةٍ ظِلَّهْ؟
وَتَدَفَّقَ شَلاَّلُ الشَّعْرِ كَنَهْرٍ
بَلْ أَجْمَلَ مِنْ مَوْجاتِ النَّهْرْ
وغَدَوْتُ أَراها
وأُتابِعُ خُطْوَتَها مِنْ غَيْرِ كَلامْ
وَأَقولُ بِسِريِّ:
سُبْحانَ الْخالِقِ
ما أَحْلى هذي الطَّلَّهْ
وَأُتَرْجِمُ شِعْراً كانَتْ فاطِمَةٌ تَكْتُبُهْ
إِمّا بالصَّمْتِ
وَإِمَّا بِالْجِسَدِ الْمُتَفَجِّر حُسْناً
أَوْ باِلْعِطْرِ السَّابِحِ حَوْلَهْ
* * *
ما عادَتْ فاطِمَةٌ طِفْلَهْ
ما عادَتْ تَضْحَكُ لي أبَداً
أَوْ تَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أسْهَرَ في مَنْزِلِ أَبَوَيْها
أَوْ تَسْأَلُني عَمَّا شاهَدْتُ بآخِرِ رِحْلَهْ
وتُلِحُّ عَلَيَّ فَواكِهُ هذا الْجَسَدِ النَّاضِجِ
كَالْهاجِسِ أَتَحاشى شُغْلَهْ
وَأَنا أَوْقَفْتُ خُطى عُمْري
ولَجَمْتُ الزَّمَنَ لِكَيْ لا يَبْـلَعَني
وتَسَمَّرْتُ على حيطانِ الْوَقْتِ
لِيَمْشي الْوَقْتُ بِدوني
وتَرَكْتُ السَّنواتِ بِمُفْرَدِها تَجْري
وَمَلأْتُ دَفاتِرَ شِعْري
وَمَقاماتِ رَحيلي
بِتَصاويرَ لِفاطِمَةٍ
وَأُنادي عَبْرَ جِهاتِ الدُّنْيا
: إِني أَنْتَظِرُ الْحُلْوَةَ فاطِمَةً
لِتُواكِبَ سَيْري
فَنَسيرُ مَعاً نَحْوَ الآتي مِنْ غَيْرِ أَدِلَّهِ
أَوَ لا يَكْفي أَنْ يُمْسِي عِشْقي
مِصْباحَ اللَّيْلِ وَقَبَسَ الشُّعْلَهْ؟
تُكبُرُ فاطِمَةٌ وأَنا
مازلْتُ كَما كُنْتُ صَباحاً
مِنْ أكَثْرَ مِنْ عِشْرينَ سَنَهْ
لا تَلْمَسُني سَنَواتُ الْعُمرِ
وَلا يَجْرِفُني الزَّمَنُ مَعَهُ
إِنَّ الْعاشِقَ لا يَكْبُرُ إِلاَّ ساعَةَ يَغْفو
أَوْ يَنْزِعُهُ مِنْ نارِ الصَّحْوِ صَقيعُ الْغَـفْـلَهْ
تَكْبُرُ فاطِمَةٌ لأراها في كُلِّ صَباحٍ
أَحْلى مِنْ أَيِّ صَباحٍ قَـبْـلَهْ
وأَنا مُلْتَصِقٌ بالْعَتْمِ بَعيداً عَنْ عَيْنِ الزَّمَنِ
وَعَنْ عَيْنِ الْهَرَمِ وَعَيْنِ الْمَوْتِ
أُراقِبُ فاطِمَةً تَخْلَعُ عَنْ قامَتِها سَنَةً
لِتُغَطِّيها سَنَةٌ أَحْلى
وَجَمَالٌ يَتَجَلَّى
جَلَّ جَلالُ اللهِ تَجاوَزَ كُلَّ جَمالٍ قَـبْـلَهْ
أَنْظُرُ في الْمِرْآةِ
فَألامِسُ حُفَرَ الزَّمَنِ بِوَجْهي
وَأُنادي هَلِعاً: لا
تَكْذبُ هذي الْمِرْآةٌ عَلَيَّ
لِتُبْعِدَني عَنْ فاطِمَةٍ
إِنِّي أَعْشَقُ فاطِمَةً
مَنْ يَعْشَقْ لا يَهْرُمْ
وَوَراءَ لِساني شَيْءٌ أَتَشَهَّى قَوْلَهُ
* * *
لكنْ هَلْ عَرَفَتْ فاطِمَةٌ أَنِّي أَعْشَقُها؟
وَبأَنِّي أَقْصُدُها
إنْ نادَيْتُ سِواها
وَبِأَنِّي أَخْتَرِقُ حواجِزَ عُمْري لأَراها؟
قلتُ إذَنْ حانَ أَوانُ الْبَوْحِ
وَآنَ أَوانُ الصَّبْرِ ليُعْلِنَ غَضْبَتَهُ
كَيْ أَلْقاها
قلتُ: سَأُهْديها باقَةَ زَهْرٍ
وَقَصائِدَ شِعْرٍ
هِيَ لُحْمَتُها وَسُداها
وَمَلأْتُ جُيوبي
مِنْ أَجْمَلَ مافي أَسْفاري
وسَهِرْتُ أُغَسِّلُ لُغَتي حَتَّى الصُّبْحِ
لِئَلاَّ أَقَعَ بِزَلَّهْ
قلتُ: أُحَدِّثُها اللَّيْلَهْ
عَمَّا شاهَدْتُ بِآخِرِ جَوْلَهْ
وَسَأُبْحِرُ في عَيْنَيْها حَتَّى تَسْأَلَني
: ما بِكَ يا عَمُّو؟
سَأقولَ لَها.. ماذا؟
إِنِّي أَعْشَقُها مِنْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرينَ سَنَهْ؟
* * *
وطَرَقْتُ الْبابْ
وَطَرَقْتُ وَقَلْبِي يَخْفِقُ كَالْعُصْفورِ
الْمُتَرَقِّبِ قَتْلَهْ
وطَرَقْتُ طرَقْتُ طرقْتُ وَلِكنْ
لا أَحَدَ أَجابْ
وتَجَمَّدْتُ طَويلاً
وكَأَنِّي أُحْرِمُ لأُصَلِّي
وأُحَمْلِقُ في خَشَبِ الْبابْ
وأَطَلَّتْ سَيِّدَةٌ مِنْ نافِذَةٍ عُلْويَّهْ
قالَتْ: أَتْعَبْتَ يَدَيْـكْ
وَقَتَلْتَ خُطوطَ الْعُمْرِ عَلى كَفَّـيْـكْ
مَنْ تَسْأَلُ عَنْهُمْ رَحَلَوا
قُلْتُ: وفاطِمَةٌ؟
ضَحِكَتْ تِلْكَ السَّيِّدَةُ
وأَغْلَقَتْ النّافِذَةَ وغابَتْ
مِنْ غَيْرِ جَوابْ
=========
الشاعر محي الدين البرادعي من ديوان بذات الاسم
الموضوع الاصلي
من روعة الكون