سيكلوجية الدين والتدين ( الجزء الأول )
لماذا الاعتقاد في الديانات الخرافية
الفطرة / نظرية الإحلال / نظرية الاحتواء / وظاهرة تعدد الأديان
دكتور مهندس / محمد الحسيني إسماعيل
يتناول هذا البحث دراسة سيكلوجية الدين والتدين لدى الإنسان ، وتفسير ظاهرة تعدد الأديان ، ولماذا يعتقد الإنسان في الديانات الوثنية على الرغم من الخرافات الواضحة التي تموج بها هذه الديانات . ونبدأ هذا البحث برؤية الموسوعات العلمية للدين حيث تقول : أن الدين هو أعظم خاصية للجنس البشري .. و هو الفيروس العقلي الذي له خاصية الانتشار الذاتي . وتقول " موسوعة الإنكارتا الإلكترونية Microsoft Encarta, Encyclopedia " أن الدّين : هو ارتباط الإنسان بالمقدس الذي يؤدي إلى الاعتقاد في الحقيقةَ الروحيةَ .. وهو " الظاهرة العالمية " التي لَعبت الجزء الهام في كل التراث الإنساني ، وبالتالي فهو أوسع بكثير وأكثر تعقيداً من أن يكون مجموعة من الاعتقادات أو الممارسات الموجودة في أي ديـانة تقليدية . والفهم المعقول للدين يجب أن يأخذ في الاعتبار نوعياته المُتميّزة وأنماطه المختلفة كشكل من الخبرة الإنسانية .
• الدين وتعريفه / من منظور الفكر الغربي ..
من أشد الأمور غرابة أن يصل الإنسان ـ في الوقت الحاضر ـ إلى كل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل ، ولكنه ـ في نفس الوقت ـ ما زال يحيا عهد الطفولة الدينية ..!!! وليس في هذا أدنى مبالغة .. أو تجاوز .. إذا علمنا أن البشرية لم تفهم بعد : " معنى الدين " .. كما لم تفهم بعد معنى : " دور الدين في حياة الإنسان " ، ولهذا لم تتفق بعد على تعريف محـدد للدين . حيث تعترف بهذا صراحة موسوعة كتاب العالم الأمريكية (The World Book Encyclopedia ) .. حيث تقول بأنه : " لا يوجد تعريف بسيط للدين يمكن أن يصف الأديان الكثيرة الموجودة الآن في العالم " . وترى الموسوعة أن الدين من منظور الغالبية العظمى يعتبر مجموعة منظمة من الاعتقادات والطقوس والممارسات والعبادات التي تدور حول " إله أسمى " . وبديهي مثل هذا المفهوم لا يفي بتعريف الدين ، كما لا يكفي لإقامة حوار بين الأديان لأنه فكر يقر ـ في جوهره ـ بتعدد الآلهة وبالتالي تعدد الأديان . نذكر منها على سبيل المثال ؛ أن الإله في الفكر المسيحي هو " عيسى بن مريم " والإله في الفكر البوذي هو " بوذا " .. والإله في الفكر اليهودي هو " يهوه " .. وهكذا تتعدد الآلهة وتعدد الأديان . كما وإن لكل " إله " ميوله ومزاجه الخاص في اختيار شعبه ..!!!
ووصول إلى الوقت الحاضر ؛ فما زال الفكر الغربي لم يتفق بعد على تعريف واضح وثابت للدين ، فهناك العديد من التعاريف التي تتصارع جميعها على محاولة أشمل و أدق لكنها في النهاية تخضع لفكر وإيمان الشخص الذي يضع التعريف و بالتالي يصعب وضع تعريف يرضي جميع الناس . فالدين يتناول واحدة من أقدم نقاط النقاش على الأرض ، و في القدم كان النقاش يتناول شكل و طبيعة الإله الذي يجب أن يعبد ، أما في العصر الحديث فيتركز النقاش أساسا حول : وجود أو عدم وجود إله خالق تتوجب عبادته .
لذلك نجد من يحاول تعريف الدين من منطلق إيماني ، روحاني ، يقيني ، أو من منطلق إلحادي ، أو من منطلق عقلاني يحاول دراسة الدين كظاهرة اجتماعية ( علماء الاجتماع ) ، أو كظاهرة نفسية ( علماء علم النفس ) ، أو فلسفية ( الفلاسفة ) . فعلماء الاجتماع و علماء الإنسان ينظرون إلى الدين على أنه مجرد مجموعة من القيم و المثل أو الخبرات التي تتطور ضمن المنظومة الثقافية للجماعة البشرية . فالدين البدائي كان من الصعب تمييزه بنظرهم عن العادات الاجتماعية الثقافية التي تستقر في المجتمع لتشكل البعد الروحي له .
ومن وجهة نظر علماء الدين ؛ فإن الدين لا يمكن اختصاره بمظاهره الاجتماعية و الثقافية الجماعية التي لا تشكل مظاهر ناتجة عن الدين و ليست الدين أساسا ، فالدين بالنسبة لهم هو الوعي و الإدراك للمقدس ، و هو إحساس بأن الوجود و العالم تم إيجاده بشكل غير طبيعي عن طريق ذات " فوق ـ طبيعية " تُدْعَى الإله أو الخالق أو الرب .
وقد يعتبر بعض العلماء أن هذا المقدس ظهر في الثقافة البشرية نتيجة للخوف و الإحساس بعدم القدرة على السيطرة على المصير و الحياة ( وبديهي ما زال هذا الواقع قائما ) : و يؤيدون كلامهم بأن الإنسان في البداية عبد النار و عبد النجوم و عبد الريح قبل ان يستطيع أن يسيطر على هذه القوى الطبيعية و بالتالي فإن الإحساس بعدم الأمان هو ما يولد الشعور بالحاجة لوجود خالق .
وقد عرّف أستاذ اللاهوت ( البرتستانتي ) والفيلسوف الإلماني " فريدريك شلايرماخر Friedrich Schleiermacher " ( 1768 – 1834 ) الدين بأنه " الشعور بالاعتماد المطلق ( العجز المطلق ) : feeling of absolute dependence " .
وجاء ـ من بعده ـ الفيلسوف الفرنسي ( الكاثوليكي ) " أوجيست كونت :Auguste Comte ( 1798 - 1857 ) " مؤسس علم الاجتماع وزعيم الفلسفة الوضعية الملحدة وقال : " إن قوانين العلم التجريبى تغنى عن الإيمان بالله " . وأضاف : " إن الاعتقاد فى ذوات عاقلة أو إرادات عليا لم يكن إلا تصورا يخفى وراءه جهلنا بالأسباب الطبيعية ، وأن العالم الطبيعى لا يبقى فراغا يسده الاعتقاد بوجود إله ، ولا يبقى سببا يدفعنا إلى الإيمان " . وينتهى كونت إلى رفض الدين كلية ، ولكنه سرعان ما يتناقض مع نفسه ، ثم يقوم بوضع دين جديد أسماه " دين الإنسانية " ..!!! هكذا ببساطة شديدة .. وقال بأن الدين هو " خاصية الجنس البشري " ..!!! ( أنظر مرجع الكاتب السابق : " الحقيقة المطلقة : الله والدين والإنسان " )
ومثل هذا التصور يجعل من الدين النتيجة الطبيعية لعجز الإنسان ، وهو ما دفع بالكثيرين بعد ذلك لطرح فكرة أن الإنسان بعد كل هذه القدرة و السيطرة و التحكم التي حصل عليها في العصر الحديث لم يعد بحاجة إلى مقدس و إيمان ..!!! إلا أن عصر ما بعد الحداثة بكل ما جلبه من إحباط و يأس من العالم المثالي الذي يتطلع له الإنسان ، شهد عودة واضحة للروحانية تمثلت في العالم الغربي بشكل أساسي على شكل حركات العصر الجديد ، أما في العالم الإسلامي فقد تمثلت بعودة حركات الإسلام السياسي والأصولية الإسلامية المعتدلة و المتطرفة . مما يعيد طرح السؤال حول علاقة الدين بالعجز أو إذا كان الإنسان فعلا قادرا عن التخلي عن الإيمان بالمقدس .
وفيما يلي سوف نذهب مباشر إلى مناقشة التعاريف المختلفة ـ والمتفق عليها ـ للدين لرؤية ما انتهى إليه الفكر الغربي عن الدين ، ونبدأ بموسوعة أديان العالم [1] التي تتبنى تعريف الدين كما جاء به قاموس أكسفورد ، حيث تعرّف الدين على أنه :
[ التسليم أو الاعتراف بوجود قدرة متحكمة فوق بشرية ، وخصوصا الإله ذو الطبيعة الواعية وهذه القدرة تدعى الحق فى إطاعتها ]
فكما نرى ، فإن هذا التعريف [2] لا يفيد من قريب أو بعيد فى تحديد طبيعة تلك القدرة الفوق بشرية وماهيتها ، ولم يبين التعريف ، هل هذه القدرة هى التي خلقت الإنسان ، أم أن الإنسان مخلوق بغيرها . وهل هذه القدرة خالقة ـ بوجه عام ـ أم هى قدرة مخلوقة بدورها . كما لم يذكر التعريف وجود أى كمالات لهذه القدرة ، أم إنها قدرة خالية من الكمالات . وطاعة هذه القدرة ـ كما يبدو من التعريف ـ هى طاعة اختيارية ، وليست ملزمة للإنسان . كما لم يذكر لنا التعريف على ماذا نطيع هذه القدرة .
وتعريف الدين على هذا النحو يعطى الشرعية الكاملة لكل الأديان بالتواجد على مسرح الفكر الإنساني ، أو الساحة البشرية بدون استثناء ، لأن جميع الأديان تحقق مضمون هذا التعريف . ففي داخل كل دين يقول الأتباع بوجود مثل هذه القدرة المهيمنة ، وبهذا تصبح كل الأديان صحيحة من وجهة نظر هذا التعريف ؛ ولتبق مشكلة تعدد الأديان ـ القضية الأزلية ـ قائمة كما هى حتى الآن .
أما إذا انتقلنا إلى التعريف الأمريكي للدين كما جاء فى : " قاموس الميراث الأمريكي : The American Heritage Dictionary " ، فإننا نجده يقول بأن الدين هو :
[ الإيمان فى ، والشعور بالورع تجاه قدرة فوق الطبيعة ، يعترف بها بأنها القدرة الخالقة والمتحكمة فى هذا الكون ] [3]
وربما كان هذا التعريف أكثر تخصيصا من سابقه ، إذ ربط الدين بالإيمان بخالق ، وأن هذا الخالق هو المتحكم فى الكون . وعلى الرغم من هذا التحديد فى المعنى ، إلا إنه لم يختلف كثيرا عن سابقه . فهو لم يحدد لنا ماهية هذا الخالق وطبيعته . كما وإنه لا يضيف جديدا للفكر البشرى تجاه الدين . فالقول بوجود الإله الخالق ، وإن هذا الإله الخالق هو المهيمن على هذا الكون ؛ هو قول موجود فى كل الأديان ، والأتباع ( أو الشعب ) فى كل الأديان يؤمنون بهذا .
بل وسنذهب إلى أبعد من هذا ونقول أن العرب قبل نزول الإسلام ، كانوا قوم شرك ، فقد كانوا يعبدون الأصنام ، وذلك على الرغم من أنهم كانوا يعتقدون فى أن الله ( ) هو الخالق لهم ولهذا الكون .. لقوله تعالى :
[ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) ]
( القرآن المجيد : العنكبوت {29} : 61 )
[ التفسير / فأنى يؤفكون : فكيف يصرفون عن الحق مع وجود هذا الدليل ]
ولكن الأصنام هى التي كانت تعبد وليس الله ، فقد كانوا يعتبرونها الوسيلة التي تقربهم إلى الله وترفع درجتهم ومنزلتهم عنده ، لقوله تعالى :
[ .. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .. (3) ]
( القرآن المجيد : الزمر {39} : 3 )
[ التفسير / زلفى : قربى ومنزلة وشفاعة لنا في حاجتنا عنده ]
وعلى هذا فإن التعريف الأمريكي لا يحدد لنا ديانة ما ، بل حتى لا يستطيع أن يستثنى الفئات المشركة ، وعبدة الأصنام من الانضمام تحت لواء الدين بهذا المفهوم . ولتتساوى إذن الأديان أمام هذا التعريف ، ولتبق مشكلة التعدد ( تعدد الأديان ) قائمة بلا حل ... !!!
فإذا جئنا إلى تعريف الدين في قاموس وبستر الموسوعي المطول فنجده يأتي على النحو التالي ..
[ الدين : هو مجموعة معينة من الاعتقادات الأساسية والممارسات ، التي يتفق عليها بصفة عامة عدد من الأفراد أو الطوائف : مثل الديانة المسيحية ] [4]
وهو تعريف مشابه لما قال به كوربت [5] :
[ الدين هو نظام متكامل من المعتقدات وأسلوب حياة وشعائر ومؤسسات يمكن للأفراد من خلالها أن يعطوا أو يجدوا معنى لحياتهم بالتوجه إلى ـ والالتزام بما ـ يعتبرونه مقدسا أو / له قيمة نهائية ]
وكما نرى من هذا التعريف .. نجد أن الدين مجرد نشاط اجتماعي تتفق عليه الفئة فحسب .. وتحقق لهم رضى ما .. ولا يهم طبيعة المضامين التي يحويها هذا الدين .
وفي الموسوعة البريطانية يأتي تعريف الدين بأنه :
[ علاقة الإنسان بما يعتبره مقدسا أو روحي أو إلهي ]
" Religion: human beings' relation to that which they regard as holy, sacred, spiritual, or divine "
أما قاموس موسوعة كتاب العالم .. فلم يزد تعريف الدين لديه عن ثلاث أو أربع كلمات هي :
[ الدين : الاعتقاد في إله أو آلهة : Religion: belief in God or gods ]
ونلاحظ هنا أن هذا التعريف تجنب ذكر " قضية خلق الإنسان " ، كما قال بتعدد الآلهة . فلم يشر هذا التعريف إلى أن الإله قد خلق الإنسان أو حتى الآلهة قد اشتركت في خلقه .. أم أن الإنسان هو مجرد الناتج الطبيعي لوجود القوانين الفيزيائية ..!!!
وبهذا التعريف نختم غاية ما انتهى إليه فكر الغرب وفهمه للدين من خلال المعاجم والموسوعات العلمية . وكما نرى هي تعاريف فضفاضة تسمح بانضواء كل الأديان تحت لوائها ..!!!
والآن ؛ ما هو تعريف الدين لدى العلماء والفلاسفة ..؟!!! وللإجابة على هذا السؤال .. نبدأ هذه التعاريف بتعريف عالم الاجتماع " أميل دوركايم " [6] للدين .. الذي يقول فيه :
[ الدين هو مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة ؛ اعتقادات وأعمال تضم أتباعها فى وحدة معنوية واحدة تسمى الملة ]
وهو تعريف مشابه إلى حد كبير مع ما جاء به قاموس وبستر الموسوعي على النحو السابق ذكره . وكما نرى ، أن أميل دوركايم ، قد حذف من هذا التعريف فكرة الله تماما ، أو فكرة الخالق من مفهوم الدين ، حيث لم يقل لنا بتعريف ماهية وطبيعة الأشياء المقدسة . وبهذا لا تتساوى الأديان فقط أمام هذا التعريف ، بل يضم هذا التعريف أيضا المذاهب الفكرية الأخرى ، من إلحاد وماركسية وعلمانية ومادية وما إلى ذلك من المذاهب المختلفة ( التدين المستتر ) ، طالما أن المذهب الفكري يحوى اعتقادا ما لمجموعة من الأفراد التابعين له ، وطالما أنه يمكن إسناد القدسية ـ بالتعريف ـ لهذا الاعتقاد .
أما "سالمون ريناك " ، فالدين عنده :
[ هو مجموعة من التورعات التي تقف أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا ]
وهو تعريف أقرب ما يكون للكفر منه للإيمان .. فقد حذف ـ سالمون ريناك ـ فكرة الإله أو الخالق من الدين ، بل وجعل من الدين قيودا مفروضة على الإنسان ، مما يوحي بضرورة التخلص منه . ولا ندرى ـ من وجهة نظر ريناك ـ من الذي فرض هذه القيود . هل الإنسان نفسه ، أم أن قوى أخرى " فوق ـ طبيعية " هى التي فرضت عليه مثل هذه القيود .
وعموما فإن تعريف الدين لدى كل من أميل دوركايم ، وسالمون ريناك يجعل من كل المذاهب الفكرية الأخرى أديانا . وهما بهذا يؤكدان ـ بدون وعي أو فهم ـ على وجود الفطرة الدينية لدى الإنسان .. وعدم قدرته الانفصال عن الدين والتدين . فإن لم يجد الإنسان بغيته المنشودة فى دين ما يرضى ذكاءه وفطرته ، فعليه أن يذهب للبحث عن الدين والتدين فى مذهب فكرى قاصر لعله يملأ الفراغ النفسي الذي يتركه الدين والحاجة للتدين فى النفس الإنسانية .. وهو ما يمثل ـ في النهاية ـ التدين المستتر أو غير الواعي في الفئات الملحدة .. أو التي تدعي بأنها لا تؤمن بدين ما .. على أي نحو أو آخر ..!!!
فإذا انتقلنا إلى الفيلسوف الألماني " كانط " [7] فى كتابه " الدين فى حدود العقل " نجد أن تعريف الدين لديه يقول بأن :
[ الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية ]
ولم يحدد لنا " كانط " ماهية الأوامر الإلهية . فإن أحسنا الظن ، فربما يقصد الجانب الأخلاقي فى الدين ، أو الضمير الفطري الأخلاقي فى الإنسان . وفى هذا التعريف لا نجد كلمة واحدة قيلت عن الإله ، سواء تعدد أو تنزه أو توحد . وهو بهذا التعريف لم يضف جديدا إلى تعريف الدين والتدين ، ولم يمنع وثنيات أخرى من أن تنضم إلى الدين . فنحن نعلم أن جميع الأديان وثنية كانت أو وضعية ، لابد وأن تشغل الأخلاق حيزا فيها أو جانبا منها .
ويقول " ماكس ميللر " [8] فى تعريفه للدين أن :
[ الدين هو محاولة تصور مالا يمكن تصوره ، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه ، هو التطلع إلى اللانهائي ، هو حب الله ]
كما يقول " روبرت سبنسر " ـ بمعنى مشابه لهذا ـ بأن الدين هو :
[ الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية والمكانية ]
وربما نلمس فى هذين التعريفين السابقين مسا خفيفا للإدراك الفطري لدى الإنسان عن " وجود الله " . ولكن هذه الأقوال ليست تعريفا للدين بقدر ما هى انفعال ذاتي " بالحضرة الإلهية " .. أو بمعنى آخر الإحساس الفطري بوجود الله ـ سبحانه وتعالى ـ فى النفس البشرية .
والآن إذا ما قبلنا بهذه التعريفات للدين ، فإننا نستطيع أن نقول بأنها تعاريف غامضة تفرض على معتنقيها أن يؤمنوا بما لا تقبله عقولهم ، ولا تتصوره أذهانهم ، وهما بهذا ينفصلان بالعقيدة عن العقل .
• عيوب القصور في تعريف الدين ..
وربما كانت هـذه أشهر التعريفات المتاحة للدين لدى الحضارة البشرية . وقد توسعت في عرضها إلى حد ما .. لأؤكد على أن الإنسان قد فشل تماما ـ كما سنرى ـ في تعريف الدين .
والآن إذا ما استثنينا تعريف كل من أميل دوركايم ، وسالمون ريناك للدين ؛ وهما التعريفان اللذان يسويان بين الأديان والمذاهب الفكرية المختلفة ؛ فإننا نجد من منظور التعريفات المتاحة ، أن كل دين يحوى " الإله الخاص به " أو القوة العليا المهيمنة الجديرة بالعبادة والطاعة . وبالتالي فإن الجماعة ليست مضطرة لمغادرة هذا الفكر للبحث عن الإله فى ديانة أخرى لعبادته . فإذا ما أضفنا إلى ذلك قبول الجماعة لمبدأ الميثولوجي ( Mythology ) ، أى أسطورية الدين أو أسطورية الدين والإله معا ، فإن " القضية الدينية " تصبح " قضية غيبية " تحكمها قوانين ميتافيزيقية (Metaphysics ) ـ أي فيما وراء الطبيعة ـ ولا تمت للواقع الفيزيائي بصلة . وبذلك يصبح الدين من هذا المنظور " بناء أسطوري " متكامل يرضى العامة أو الغالبية البسيطة ، حتى وإن ترك باب الشك والرفض مفتوحا على مصراعيه لدى القلة المفكرة .
ومن جانب آخر ؛ يصبح الانتقال من ديانة إلى ديانة أخرى ـ من الناحية الفكرية ـ موضوع غير ذي قيمة ، فالفكر الأسطوري ( الميثولوجي ) ـ إذا ما استثنينا الإسلام ـ هو الفكر السائد فى كل الأديان . حتى وإن وجد بعض الخلافات فى بعض المضامين الدينية ، فإنها غالبا ما تكون غير ذات قيمة أو مؤثرة أو ما إلى ذلك . وتصبح الدعوة إلى اعتناق دين ما .. كمن يقايض فكرا أسطوريا بفكر أسطوري آخر ، ويصبح الموضوع برمته ـ إذن ـ غير موضوعي . ومن ثم يصبح الانتقال من ديانة إلى ديانة أخرى ـ من الناحية الاجتماعية ـ مغامرة بلا عائد . وتصبح القدرية هنا ملزمة لفكر الفرد ويصبح من الأمـان عدم مغادرة الفرد لفكر الجماعة ـ على الأقل ـ لتجنب المشاكل الاجتماعية الناجمة عن هذا الانتقال ، ونبذ المجتمع للفرد .
ولا عجب بعد ذلك أن تصبح الأديان ـ بهذه التعريفات القاصرة ـ كالجزر المستقلة فى محيط لانهائي من الرؤية الكونية الغامضة .. أو الوجود الغامض ، لا يمكن الربط بينها ، حيث يحوى كل منها الإله المعبود ( نظرية الإحلال ) وبعضا من مكارم الأخلاق ( نظرية الاحتواء ) فى خضم هائل من الوثنيات الفكرية ، وبذلك يصبح الفرد أسيرا لوجوده فى الديانة ( أيا كانت ) منذ ميلاده ، حيث يفقد التوجه الصحيح إلى " الخالق المطلق " والذي يعتبر ( هـذا التوجه ) العلة الغائية من خلق ووجود الإنسان وأساس خلاصه ومصيره .
وليس هذا كل عيوب التعريف القاصر للدين ، بل هناك سمة أخرى لا تقل خطورة عما سبق ذكره ، وهى إيجاز ( أو جواز تمرير ) الأديان الخاطئة . فالتعريف القاصر للدين لا يجعل من العسير فقط بل ومن المستحيل أيضا وضع الشروط أو المقاييس (The true measures ) اللازمة لتحديد هوية الديانة الحقة من بين الأديان الباطلة . وعدم وجود مثل هذا المقياس يجعل الحكم على الأديان عشوائيا وشموليا ، حيث تصبح المقارنة بينها دربا من المستحيلات ، طالما لا يوجد المعيار المطلق أو المعيار الصحيح لإدراك الحقيقة فيما بينها . وبهذا يتساوى الخطأ بالصواب ، وتضيع الحقيقة برمتها أو كلية من بين يدي الإنسان ، ليقف الإنسان عاريا تماما .. ووحيدا تماما ... لا يغلفه إلا العجز فى هذا الوجود . ويحكم مصيره الصدفة البحتة وحدها فى تواجده داخل الديانة الصحيحة منذ ميلاده .
وكما سنرى إننا كلنا نشارك فى هذه المسئولية ، فالأخوة الإنسانية تحتم علينا ، كما يحتم علينا ذلك " الله " ( ) أيضا ، في أن نتساند ـ كما تساندنا فى مجال العلم والتكنولوجيا ـ لإدراك الحقيقة المطلقة .. وعلى الرغم من البساطة الشديدة لإدراك هذه الحقيقة ، إلا إنها بعيدة المنال لعدم إدراك الإنسان للمعنى الحقيقي أو المفهوم الصحيح للدين ، وبالتالي جانبه الصواب فى تعريف وصياغة الدين .
وننتهي من هذا كله إلى أن فشل الإنسان في تعريف الدين يرجع في المقام الأول والأخير إلى إغفال الرؤية الإلهية للدين ، أي إغفال رؤية الصاحب الحقيقي للدين ، فالإنسان غير مؤهل بالفطرة لوضع هذا التعريف ، ولكن القادر على وضع هذا التعريف هو الله ( ) ـ كما سنرى ـ الصاحب الحقيقي للدين . ويتحمل هذا الفشل أيضا خلو الديانات نفسها ـ باستثناء الإسلام ـ من هذا التعريف ..!!!
• الدين وتعريفه من منظور الكتاب المقدس / الديانتان اليهودية والمسيحية ..
من الأمور الغريبة أن كلمة " دين : Religion " بمعنى العقيدة لم يأت ذكرها على نحو مطلق في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ( أي في الديانتين اليهودية والمسيحية ) ..!!! فلم ترد كلمة " دين " إلا في سياق معنى الدينونة أو الحكم أو يوم الدين ( Day of Judgment ) فقط . ولهذا لا يوجد تعريف للدين من منظور الديانتين اليهودية أو المسيحية ..!!! وهكذا ؛ أغفل الكتاب المقدس تحديد معنى الدين وتخبط الفكر الغربي في تحديد معناه على النحو السابق ذكره في الفقرة السابقة .. وانتهى الحال بالغرب بأنه عجز عن فهم معنى الدين وفهم معنى دور الدين في حياته حتى الآن ..!!!
• لماذا فشل الإنسان في وضع تعريف موحد وثابت للدين ..
في كلمات قليلة يمكننا تلخيص أسباب فشل الإنسان في وضع تعريف موحد وثابت للدين .. في البنود التالية :
• خلو الديانات ـ باستثناء الإسلام ـ من تعريف الدين .
• خلو الديانات ـ باستثناء الإسلام ـ من وجود غايات من الخلق .
• إغفال المنظور الإلهي في تعريف الدين .
• إغفال الفطرة البشرية الخاصة بالدين والتدين .
• عدم التنبه إلى أن الإنسان غير مؤهل بالفطرة لوضع تعريف الدين .
• الدين بين الحقيقة والوهم والاعتقاد ..
والآن ؛ بعد أن فشل الفكر الغربي في : (1) فهم معنى الدين ، (2) وفي فهم معنى دور الدين في حياة الإنسان ، (3) وفي فهم معرفة الغايات من الخلق ؛ فشل في الاتفاق على تعريف موحد الدين .. وبالتالي أصبحت رؤيته للدين تتراوح بين : " فكر الوهم " و .. " فكر الاعتقاد ".
بمعنى أن الدين من المنظور الغربي هو إما أن يكون : " قضية وهمية " من اختراع وصنع خيال الإنسان بمعنى أن " الإنسان هو الذي خلق الإله ، وليس الإله هو الذي خلق الإنسان " .. وبالتالي لا أساس للدين في أرض الواقع .. أو أن يكون : " قضية اعتقاديه " لا برهان لها .. أي أن الدين هو .. قضية يعتقد فيها الإنسان أو لا يعتقد فيها .. ولا يوجد لها برهان يمثل دليل الصدق عليها . وبهذا لا يرقى الدين من المنظور الغربي إلى القضايا العلمية ذات البراهين الراسخة .. كما لا يرقى إلى الحقائق المطلقة التي نراها قي القوانين الفيزيائية والرياضية ..!!! وهو ما يعني أن الغرب مازال يحيا في فترة " الطفولة الدينية " .
أما بعد مجيء الإسلام .. فقد تغير هذا المنظر تماما .. فقد قام الدين الإسلامي بنقل : " القضية الدينية " من حيز الوهم والاعتقاد إلى حيز : " القضايا العلمية الكلية " ذات البراهين الراسخة وبهذا أصبح الدين : " قضية مطلقة " .. وليس : " قضية نسبية " . هذا وقد اتبع الدين الإسلامي المنهاج العلمي الحديث ـ كما بينا هذا في مقالات سابقة ـ في أشمل وأعم معانيه في البرهنة على صدق القضية الدينية وبالتالي صدق مضامينه . ويأتي هذا المعنى بشكل مباشر .. في قوله تعالى للبشرية جمعاء عن القرآن المجيد ..
[ يَأيـُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبـِّكُمْ وَأنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174) ]
( القرآن المجيد : النساء {4} : 174 )
وبديهي كلمة " برهان " لا تأتي إلا مقترنة بالنظـريات العلمية والرياضية أو النظريات الفيزيائية ذات البراهين المحددة . ويأتي البرهان العلمي في القرآن المجيد على نحو البراهين العلمية المتبعة في النظريات الفيزيائية الكبرى والحديثة .. والتي تأسست على مفهوم : " المُسَلَّمَة العلمية : Scientific Postulate " ( أنظر مقالات الكاتب السابقة ومنها : المنهاج العلمي في القرآن المجيد ، و التحول في النموذج الديني ) .
• الفطرة الدينية / المنظور المطلق ..
قبل تعريف الفطرة الدينية ؛ كان لنا نقف وفقة قصيرة لنلقي الضوء على مفهوم الفطرة الدينية لدى الإنسان ، ودعنا نذهب مباشرة إلى البراهين ـ الإحصائية ـ الدالة على تأكيد وجود هذه الفطرة في النفس البشرية . وتأتي أهم هذه البراهين ـ الإحصائية ـ في الجدول التالي الذي يبين عدد اتباع الديانات المختلفة في ديانات العالم الرئيسية .
جدول يبين عدد أتباع ديانات العالم
( عام 2005 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
م --- اسم الديانة --- تاريخ النشأة -- عدد الأتباع -- لنسبة المئوية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 --- المسيحية --- 27 ميلادية --- 2100 مليون ---- 33%
2 --- الإسلام --- 622 ميلادية --- 1300 مليون ---- 21 %
3 --- الهندوسية -- 1500 – 2600 ق.م. -- 900 مليون --- 14%
4 --- البوذية --- القرن السادس ق.م. -- 376 مليون ------ 6%
5 --- الكونفوشية --- القرن السادس ق.م. --- 150 مليون --- 2.3 %
6 --- اليهودية --- القرن 13 ق.م. --- 14 مليون ----- 0.22 %
7 --- البهائية --- التاسع الميلادي --- 7 مليون ----- 0.11 %
8 --- الجينية --- السادس ق. م. --- 4.2 مليون ----- 0.066 %
9 --- الشنتوية --- 300 ق. م. ---- 4 مليون ----- 0.063 %
10 -- ديانات أخرى متنوعة
--- ( أكثر من 33 ديانة ) --------- 694.8 مليون --- 11 %
11 -- غير متدينين / لا أدريين /
------ دنيويين / ملحدين .
------ ( ويندرجوا جميعا تحت اسم
------ التدين المستتر ) ---------- 850 مليون ----- 13 %
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---- إجمالي عدد سكان العالم -------- 6400 مليون ---- 100 %
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى الرغم من القيمة الإحصائية لهذا الجدول حول معرفة عدد أتباع الديانات المختلفة إلا أن قيمته الحقيقية تكمن في الشهادة التي يتضمنها هذا الجدول على وجود الفطرة الدينية لدى الإنسان .. وأن البشرية على نحو كامل تعبد إلها ما .. بصورة أو بأخرى ..!!!
ونظرة عابرة على هذا الجدول تؤكد وجود " الفطرة الدينية " لدى الإنسان . حيث لا يعقل أن يكون حوالي 87% من تعداد البشرية بالكامل يدينون بدين ما بشكل واضح وصريح .. ويقومون بممارسة شعائر العبـادة بشكل ما أو بآخر .. بدون وجود " فطرة دينية " لدى الإنسان تدفعه للقيام بهذا الإيمان وهذه الممارسة . وحتى الملحدون .. ومن يدَّعون بأنهم لا يدينون بديانة ما بشكل صريح ( أي حوالي الـ 13 % المتبقية ) ففي الواقع .. هم يؤمنون ( أو يدينون ) بديانة ما مستترة .. وإن كانوا لا يدركون مثل هذا المعنى . ونذكر من هذه الديانات المستترة ـ على سبيل المثال ـ المذهب العالماني .. أو " العالمانية " .. و " الماركسية " .. وغيرها من المذاهب الاجتماعية .. التي تعتبر في جوهرها شكلا من أشكال التدين المستتر ( أنظر مرجع الكاتب السابق : " الدين والعلم وقصور الفكر البشري ) .
وكما نرى من هذا الجدول فإن أكثر من ثلث سكان العالم يدين بالمسيحية ( بغض النظر عن طوائفها المختلفة : 18 طائفة ) . أما عدد المسلمين فيبلغ حوالي خمس سكان العالم يعيش أغلبهم في أجزاء من قارة آسيا والشرق الأوسط .
أما " الديانة اليهودية " فعلى الرغم من أن الغرب يعتبرها من ديانات العالم الرئيسية (على اعتبار أن نصوصها تمثل الجزء الأول من الديانة المسيحية ) إلا أن أتباعها أقل من أتباع كل من الديانة الهندوسية والبوذية .. والديانات الأخرى المتنوعة التي تمارس حاليا في آسيا . أما الملحدون .. واللاأدريون ومن يعتبرون أنفسهم لا يدينون بدين عالمي رئيسي .. فهم يمثلون حـوالي 13% فقط من تعداد سكان العالم . وقد بينت في المرجع السابق : " الحقيقة المطلقة : الله والدين والإنسان " .. أن هذه الفئة ـ في حقيقة الأمر ـ تمارس طقوسا معينة يمكن أن يدرجها تحت قائمة فئات " التدين المستتر " .
• الفطرة الدينية / غريزة الدين والتدين / المنظور الإسلامي ..
كما رأينا من البند السابق أن " الفطرة الدينية " لدى الإنسان هي قضية مقطوع بصحتها ( كما توضح القوانين الإحصائية هذا ) . ويمكننا تعريف الفطرة : بأنها الخاصية الذاتية للإنسان التي يخرج بها ـ من المصنع الإلهي ـ إلى الحياة ( عند ولادته ) والتي تصاحبه على طول حياته .. مثل شكله وصفاته وغرائزه : كغريزة حب الحياة ( البقاء) ، والغريزة الجنسية ، وغريزة التدين .. وغيرها من الغرائز الأخرى . ومثل هذا الأمر يشبه ـ تماما ـ شكل وصفات .. وخواص ومميزات السيارة .. عند سنة صنعها عند خروجها من المصنع القائم بصنعها .
ويقسِّم الفكر الإسلامي ـ الله عز وجل ـ الفطرة الدينية عند الإنسان إلى ثلاث أقسام ـ أو فطرات ـ رئيسية تأتي على النحو التالي :
الفطرة الأولى : وتتمثل هذه الفطرة في " إدراك وجود الحضرة الإلهية " .. أو " إدراك الإنسان لوجود إله خالق له " .. وتعرف هذه الفطرة أيضا باسم : " الوعي الفطري بوجود الله ( ) " .. أو بمعنى أشمل " وجود حيز للإله في النفس البشرية " .. وتأتي تكوين هذه الفطرة .. بشكل مباشر في القرآن المجيد في قوله تعالى ..
[ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) ]
( القرآن المجيد : الأعراف {7} : 172 - 174 )
والتوقف قليلا حـول معنى هذه الآيات الكريمة .. نرى أن الإنسان يدرك وجود خالق له بالفطرة . أي أن الإنسان يدرك وجود الله ( ) .. كما يدرك وحدانيته ( ) .. حيث قام المولى ( ) بزرعهما ( الوجود والوحدانية ) في داخل النفس البشرية منذ أن كان الإنسان طفلا في عالم الأرحام .. وقبل الميلاد . وهنا ؛ يجدر الإشارة إلى أننا إذا تبنينا معنى الدين بأنه الاعتقاد في إله خالق ( كما جاء هذا في قاموس موسوعة كتاب العالم ) .. فإن هذه الآيات الكريمة تشير إلى " الفطرة الدينية " لدى الإنسان .
ولا سبيل للإنسان ـ فيما بعد ـ للتنكر لهذه الفطرة والخاصة بإدراك هذا الوجود الإلهي تحت زعم أو دعوى الغفلة أو اتباع الآباء المشركين .. .. أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ .. أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ .. أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ .. . فمثل هذا القول مرفوض تماما حيث أن هذه المعرفة مغروسة في النفس البشرية للإنسان منذ ميلاده ولا سبيل لإنكارها .
الفطرة الثانية : هي الفطرة الخاصة بـ " التدين " : بمعنى أن الإنسان مدفـوع بالفطرة إلى الإيمان بدين ما .. والقيام بممارسة عبادة ما .. لإله ما .. قد يدرك صفاته أو قد لا يدرك صفاته .. أي عبادة و طقوس لا تحديدية فيها . وينبغي ملاحظة استقلال هذه الفطرة عن الفطرة السابقة ، فكل منهما مستقلة عن الأخرى . فقد يعتقد الإنسان في وجود " إله خالق " ولكن لا توجد لديه أي دوافع لعبادته . وتأتي هذه الفطرة ـ أي " ممارسة العبادة " ـ في قوله تعالى ..
[ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ]
( القرآن المجيد : الذاريات {51} : 56 )
وتجمع هذه الآية الكريمة : بين (1) فطرة التدين .. و بين (2) الغايات من الخلق .. على حسب قراءة حركة الحرف الأخير من كلمة " ليعبدون " بين السكون : [ .. لِيَعْبُدُونْ ] .. أو الجر [ .. لِيَعْبُدُونِ ] وكلاهما جائز . فمن منظور فطرة التديّن ( لِيَعْبُدُونْ ـ أي بسكون النون ) فإن الإنسان سوف يقوم بممارسة عبادة ما من أي نوع ( اعتمادا على إدراكه الفطري بوجود إله خالق له ) . لا تحديد فيها لنوع الطقوس المؤداة . أما من منظور : ( لِيَعْبُدُونِ ـ أي بكسر النون ) فإن الغاية النهائية من خلق الإنسان هو عبادة الله ( سبحانه وتعالى ) الواحد الأحد . ومن منظور هذه الفطرة تصبح الغاية النهائية من خلق الإنسان .. التوجه بالعبـادة للإله الخالق ( سبحانه وتعالى ) لهذا الوجود .
وممارسة العبادة يقبع وراءها دوافع فطرية ـ خفية ـ أخرى : .. منها الإحساس بالقرب من هذا الإله الخالق .. وهو ما يولد " الطمأنينة " الروحية للإنسان مع هذه المعية الإلهية من جانب .. كما ينمِّي ـ هذا القرب ـ دوافع عمل الخير لدى الإنسان ويبعده عن عمل الشر .. من جانب آخر . وتنتهي هذه المعية الإلهية في ذروة معانيها إلى " الحب المطلق " ( والذي يقع تحت طائلته جميع أطياف معاني الحب المادية الأخرى ) . وهو الحب الكامن في داخل النفس البشرية نحو الإله الخالق .. والذي يتألق في مظاهر مغايرة ( حب البشر ) تستتر خلفها هذه الحقيقة أو هذه الفطرة .
الفطرة الثالثة : وهي " إدراك الإنسان أو إحساسه بأبديته " .. أي إنه باق وغير منتهي .. وإنه لن يموت . وربما من أهم النصوص القرآنية التي تعبر عن هذه الفطرة هو طبيعة خلقنا وارتباط هذا الخلق بالله ( سبحانه وتعالى ) .. كما جاء في قوله تعالى مخاطبا الملائكة في شأن هذا المخلوق .. أي الإنسان ..
[ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) ]
( القرآن المجيد : ص {38} : 71 – 72 )
وهو ما يعني أن الوعي والإدراك بالوجود جميعها مرتبط بكون الإنسان نفخة من روح اللله سبحانه وتعالى .. وهو ما يميزنا عن الجماد ( ملحوظة : قد يتفوق الكمبيوتر على الإنسان في لعبة الشطرنج مثلا ولكن الكمبيوتر لن يفرح أو يحزن للمكسب أو الخسارة ، كما لن يدرك في أي لحظة أنه موجود ) .
ويقع خلف قوله تعالى .. [ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي .. ] كل الفكر الصوفي ( ابن عربي ) .. وغير الصوفي أو الفلسفي ( باروخ سبينوزا ) الذي ينادي بوحدة الوجود .. وكل من ينادي بالحلول ( الحلاج ) . وسبق الكلام عن هذه الاتجاهات الفكرية في مرجع الكاتب السابق : " الحقيقة المطلقة .. الله والدين والإنسان " . ويقبع خلف هذه الفطرة فكر البعث والجزاء ( ومن أهم مشاهده تراث الفراعنة ) . ومن هذا المنظور ومن منظور البعث والجزاء في أكوان أخرى متطابقة مع كوننا هذا ـ بقوانين فيزيائية مغايرة ـ أمكن تعريف الإنسان بأنه :
[ ذلك الكائن الحي المدرك لوجوده وللوجود .. والذي يحتل الحدود المشتركة ( The Common Boundaries ) لعدة عوالم مختلفة ( أكوان متطابقة أو موازية ) تحدد ظهوره ومكانته في أي منها قوانين عليا ( فيزيقية / ميتافيزيقية ) ترتبط بسلوكه واعتقاده وحركته فيها . ]
ومثل هذا التعريف له أهمية بالغة في الفيزياء النظرية ، أو بمعنى أكثر تخصصا في المجال الكمي ( Quantum Field ) عند محاولة بناء : " النموذج القياسي :The Standard Model " للكون المادي الذي نحيا فيه ( لها مقالات تالية إن شاء الله ) .
وننتهي من هذه الفقرة ؛ بأن جمع هذه الفطرات الثلاث السابق شرحها تأتي ـ في الفكر الإسلامي ـ تحت مسمى واحد هو : " الفطرة الدينية " أو " غريزة الدين والتدين " لدى الإنسان .
• الدين وتعريفه / المنظور الإسلامي ..
والآن ؛ أصبحنا في موقف يسمح بتعريف الدين من المنظور الإسلامي . فكما رأينا ؛ أن التعريفات السابقة للدين في الفكر الغربي .. تعكس عدم فهم الإنسان لمعنى الدين حتى الآن حيث أغفلت جميعها دور " الله " ( سبحانه وتعالى ) ـ الإله الخالق وصاحب الدور الرئيسي في الدين ومصدره ـ في هذه الصياغة . وبديهي ؛ لا تثريب على الإنسان في هـذا . فالواقع أن الله ( عز وجل ) لم يؤهل الإنسان ( بالفطرة ) لمعرفة معنى الدين بشكل مستقل عن وجوده ( سبحانه وتعالى ) ليجعل من الدين محل اختبار وابتلاء كأساس للغايات من خلق الإنسان . ولهذا ينحو القرآن المجيد منحى مختلف تماما عما سبق في مفهوم وتعريف الدين .
ويرتبط تعريف " الدين " في الفكر الإسلامي بمفاهيم ثلاثة أساسية هي :
المفهوم الأول : هو مفهوم خاص بوحدانية الخالق وثباته .. وحيث أن الدين مصدره الخالق ، سبحانه وتعالى ، فهذا يعني ـ بالتالي ـ وحدانية الدين وثباته . فلا يوجد من منظور الديانة الإسلامية أديانا ، بل هو دين واحد أوحى به الله ( سبحانه وتعالى ) إلى كل أنبيائه ورسله ، كما جاء في قوله تعالى لمحمد ( ص ) :
[ مَّا يُـقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبـَّكَ لَذُو مَغْفِرَةً وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) ]
( القرآن المجيد : فصلت {41} : 43 )
أما المفهوم الثاني للدين : فهو مرتبط بالغاية من رسالة الدين . وهذه الغاية تتمثل في تعريف الإنسان .. بهذا الخالق المطلق ـ أى تعريف الإنسان بالله / سبحانه وتعالى ـ المتفرد في الكمالات والفعل الإلهي . وجميع الديانات ـ عدا الديانة الإسلامية ـ إما تتورط في تعريفات وثنية للإله مثل اليهودية والمسيحية ( أنظر مقالة الكاتب السابقة : " الرد على وفاء سلطان / الجزء الثاني : صفات الذات الإلهية بين المسيحية والإسلام " ) ، أو تغفل التعريف بالإله تماما كالبوذية والكونفوشية وغيرهما ( أنظر مرجع الكاتب السابق : الدين والعلم وقصور الفكر البشري ) .
أما المفهوم الثالث للدين : فهو مرتبط بتعريف .. الإنسان بالغايات من خلقه ، وهو الأمر الذي تخلو منه .. أو تغفله جميع الديانات . وبديهي ؛ إذا قلنا بضرورة وجود الغايات من خلق الإنسان فلابد وأن يكون الدين هو البلاغ الصادر عن الخالق لتعريف الإنسان بهذه الغايات .. وتأتي هذه المعاني السابقة عن مفهوم الدين وتعريفه في الديانة الإسلامية في قوله تعالى ..
[ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيـُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أنـَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52) ]
( القرآن المجيد : إبراهيم {14} : 52 )
وهذا هو دور الرسول ( ص ) كما يجيء في قوله تعالى ..
[ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) ]
( القرآن المجيد : الجن {72} : 19 - 23 )
[ التفسير / قام عبد الله : المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم ، أو أي نبي أو رسول آخر / لبدا : ازدحموا وتكاثروا عليه / ملتحدا : ملتجأ وملجأ ]
وننتهي من التحليل السابق بأننا نستطيع ـ الآن ـ القيام بتعريف الدين من المنظور الإسلامي بأنه :
[ البلاغ الصادر عن الخالق المطلق لهذا الوجود ( ويشمل ذلك كوننا هذا والأكوان الأخرى الموازية أو المتطابقة معه ) لتعريف مخلوقاته ( بما في ذلك الإنسان ) به ( كمالات وفعل ) ، وتعريف هذه المخلوقات بالغايات من خلقها ، وحتمية تحقيق هذه المخلوقات لهذه لغايات .. حتى تنال الخلاص المأمول والسعادة الأبدية المنشودة ]
• نبذة عن الغايات من الخلق ..
وفي عجالة سريعة ؛ نستطيع إجمال الغايـات من الخلق بأنها : الإيمان والتواصل العاقل مع الإله الخالق ـ الله سبحانه وتعالى ـ لتحقيق التناغم المأمول معه .. في كوننا هذا .. وفي الأكوان المغايرة ـ اللانهائية ـ الأخرى والتي تحكمها قوانين فيزيائية عليا ( حتى وإن بدت شاحبة ) .. مثل القوانين الفيزيائية التي تحكم كوننا هذا .. إن جاز لنا استخدام مثل هذا التعبير الذي يوحي بتناظر المعاني .. لننتهي من هذا إلى السعادة الأبدية المنشودة .
ويتمثل هذا التعريف من قوله تعالى ..
[ .. فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) ]
( القرآن المجيد : طه {20} : 123 - 127 )
فالدين ـ بهذا المفهوم ـ يمثل العلاقة المتبادلة بين الله ( سبحانه وتعالى ) والإنسان ، ويُحَدِّد هذه العلاقة أو يُعَرِّف هذه العلاقة المتبادلة فيه الله نفسه وليس الإنسان . فالإنسان غير مؤهل فطريا ( By default ) لمعرفة الهدف و المقاصد الإلهية ( أو الفكر الإلهي ) .. عن خلقه وخلق هذا الوجود إلا من خلال ما يمليه الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليه من خلال أنبيائه ورسله .
وأشدد على القول ـ بل وبثقة كاملة ـ أن الغاية النهائية من جميع بحوث الفيزياء النظرية ، بما في ذلك البحث عن " نظرية المجال الموحد " ، وكذا الغاية النهائية من بحوث وكالة الفضاء الأمريكية وبالأموال الهائلة التي تنفق في هذا المضمار .. هو معرفة :
• أصل الكون .
• الغاية من وجود الإنسان على الأرض وفي هذا الكون .
• هل الإنسان هو المخلوق الوحيد في هذا الكون .
• البحث عن كتاب الحكمة ( ويتمثل هذا في بحوث الآثار الفرعونية القديمة .. وخصوصا ما يتعلق بغرف الأهرامات غير المكتشفة والتي قد تحوي هذا الكتاب ) .
وفي الحقيقة ؛ أن الإنسان مبرمج في حركته هذه ( شأنه في هذا ـ على سبيل المثال ـ شأن هجرة الطيور ) حتى يتحقق فيه قوله تعالى ..
[ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (20) ]
( القرآن المجيد : الإنشقاق {84} : 20 )
ولكي تأتي الخاتمة في قوله تعالى ..
[ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42) ]
( القرآن المجيد : النجم {53} : 42 )
• نظرية الإحلال / نظرية الاحتواء / وظاهرة تعدد الأديان
وبعد أن أخفقت الحضارة الغربية في فهمها لمعنى " الفطرة الدينية " , وما ترتب على ذلك من فشلها في وضع تعريف محدد وثابت للدين ، ومن خلال استعراضنا لتركيبة الديانات المختلفة .. فإننا يمكنناالقول بأن أي ديانة يمكن أن تؤسس إذا ما توفرت فيها الشروط التالية :
1. وجود إله فوق ـ طبيعي هو الخالق للكون و العالم و المتحكم بهما و بالبشر و كافة المخلوقات . ( كما سبق وأن بينا : يقع خلف هذا الفكر .. الفطرة الخاصة بـ : " الوعي الفطري بوجود الله سبحانه وتعالى " .. وتلعب " نظرية الإحلال " الدور الرئيسي فيها فما يتعلق بتعدد الأديان )
2. وجود طقوس عبادية يقصد بها تبجيل المقدس من ذات إلهية و غيرها من الأشياء التي تتصف بالقدسية . ( كما سبق وأن بينا : يقع خلف هذا الفكر .. الفطرة الخاصة بدوافع العبادة )
3. الصلاة و هي الشكل الأساسي للاتصال بالخالق و إظهار التبجيل و الخضوع .
4. قانون أخلاقي moral code : أو شريعة تشمل الأخلاق و الأحكام التي يجب اتباعها من قبل الناس و يعتقد المؤمنون انها آتية من الله الخالق لتنظيم شؤون العباد . ( قانون الاحتواء ) .
5. وجود شريعة أو مباديء شرعية لتنظيم حياة المؤمن وفقا للرؤية الكونية التي يقدمها هذا الدين .
6. إدراك وجود لعالم للأرواح ، وعالم للمادة . و وجود البعث و آلية الثواب والعقاب .
7. رؤية كونية world view : تشرح كيفية خلق العالم و تركيب السماوات ( لها مقالات مستقلة ) و الأرض ، أي كيف ينظم الله شؤون العالم .
وخطوة إلى أعلى .. نجد أن هذه البنود تأتي تحت نظريتي : الإحلال ، والاحتواء .. حيث يتم تعريفهما على النحو التالي :
نظرية الإحلال : وتعرف هذه النظرية بأنها " إحتلال الإله الوثن لحيز الإله الحقيقي في داخل النفس البشرية " . وتشمل البنود 1 إلى 3 المذكورة أعلاه ، والخاصة بتأسيس أي ديانة .
نظرية الاحتواء : وتعرّف باحتواء الديانة للقوانين الأخلاقية ووجود التشريعات الخاصة بها ـ بغض النظر عن طبيعتها وتناقضاتها مع الفطرة السوية ( كما في الديانتين اليهودية والمسيحية ) ـ والتي تنظم شئون حياة الفئة المؤمنة بهذه الديانة . وتشمل البنود 4 إلى 6 المذكورة أعلاه ، والخاصة بتأسيس أي ديانة .
مما سبق يمكننا القول وبشكل مباشر .. أن ( الإله ) الوثن في الديانات الوثنية يكون قد احتل حيز الإله الحقيقي ( أي حيز الله / سبحانه وتعالى ) في نفس جموع وأتباع هذه الديانات ( أي في النفس البشرية ) .. وهنا يصبح تمسك الجموع بالإله الوثن والدفاع عنه ـ وبالتالي الدفاع عن الدين ـ هو دفاع الإنسان الطبيعي عن إدراك وجود الله ( عز وجل ) .. بعد أن احتل الوثن مكان الإله الحقيقي ( هذا بفرض : جهل رجال الدين بهذه المعاني .. وليس قيامهم بخداع الأتباع والتغرير بهم ) حيث يميل الكاتب إلى الاعتقاد ـ الذي يصل أحيانا إلى درجة اليقين ـ إلى أن رجال الدين اليهودي والمسيحي ( وخصوصا الذين يعيشون بين ظهرانينا ويتكلمون العربية ) يعرفون حقائق الأمور ويحجبونها عن الجموع المغيبة لأهداف شخصية متباينة .. منها الإبقاء إلى مكانتهم المقدسة وما يتبع ذلك ..!!! وهم بهذا يرتكبون أكبر عملية غش وتزوير في حق البشرية جمعاء ..!!! وننتهي من هذا بتعريف
ظاهرة تعدد الأديان : [ بأنها الظاهرة التي يحتل فيها " الإله الوثن " وعبادته حيز " الإله الحقيقي " وعبادته في داخل النفس البشرية .. وبهذا يصبح التمسك بالوثن والدفـاع عن الدين هو التمسك الطبيعي بالإله والدين .. كما تقضي بذلك الفطرة البشرية ]
• سيكولوجية الدين والتدين / ودوافع الاعتقاد في الديانات الوثنية
بداية لابد لي أن أؤكد ـ وأؤكد بشدة ـ أن الديانتين اليهودية والمسيحية تأتيان على قمة قائمة الديانات الخرافية والأسطورية ، وليس في هذا أي تجاوز لفظي أو ازدراء ، فكما رأينا في مراجع الكاتب السابقة ـ وكذا في مقالات الكاتب ـ أن الديانتين اليهوديـة والمسيحية تموجان بالخرافات والأساطير . وفي محاولة مبذولة من جانب الفلاسفة وعلماء النفس في تفسير ظاهرة قبول الإنسان التدين بمثل هذه الديانات الوثنية .. نبدأ بمحاولة عالم النفس اليهودي " سيجموند فرويد " في إيجاد تفسير مقبول أو معقول لهذه الظاهرة .
فسيجموند فرويد وجد أن الإنسان فى الجانب الواقعي كائنا عاقلا ومنطقيا بشكل واضح ، بينما وجده فى جانب الديانة الوثنية ـ المسيحية واليهودية ـ كائنا فاقدا للعقل والمنطق معا . لهذا رأى فرويد أن الإنسان يسهل عليه الاحتفاظ بالأديان الوثنية ، باعتبار أن الدوافع السلوكية للإنسان تجاه الدين تماثل الدوافع السلوكية للطفل تجاه أبوه ، وبهذا احتفظت البشرية بالمنهاج الديني الوثني كنوع من الامتداد للفكر الطفولي لدى الإنسان .. المماثل لفكر الأبوة .
بينما يرى بعض علماء النفس المعاصرين ، ومنهم " آريك فروم " أن قدرة الإنسان على الاحتفاظ بالديانات الوثنية ، ترجع ـ فى الواقع ـ إلى أن الإنسان يملك " القدرة على التبرير " وأن هذه القدرة هى جزء من الطبيعة البشرية ، وبهذه الطبيعة يصبح الإنسان قادرا على قبول أشياء بعيدة عن الأمر الواقع ، أو بعيدة عن العقل [9] بسهولة ويسر .
ولم يتنبه كل من سيجموند فرويد ، وآريك فروم .. إلى وجود " الفطرة الدينية " .. وغريزة التدين لدى الإنسان على النحو السابق ذكره في الفقرات السابقة . وبهذه المعاني السابقة عن الفطرة البشرية .. والأخذ في الاعتبار كل من نظريتي الإحلال والاحتواء يمكننا ـ الآن ـ فهم وتفسير دوافع وقبول الإنسان الإيمان بالديانات الوثنية التي تموج بالنصوص الأسطورية والخرافية .. وعدم اتساقها مع العقل ومعطيات العلم الحديث . ففي الديانات الوثنية ـ وفي غياب العقل ـ يحتل " الإله الوثن " وعبادته حيز " الإله الحقيقي " وعبادته في داخل النفس البشرية .. وبهذا يصبح التمسك بالوثن والدفـاع عن الدين هو التمسك الطبيعي بالإله والدين .. كما تقضي بذلك الفطرة البشرية .
ثم يأتي ـ بعد ذلك ـ دور رجال الدين في استمرار تمسك الشعب بالديانة الوثنية على الرغم من الخرافات الفكرية الواضحة والظاهرة للعيان وبشكل لافت .. حيث يقوم رجال الدين بإجراء عمليات غسيل المخ المنظمة على النشأ منذ طفولتهم ليشبوا على تسليم فكرهم الديني تماما لرجال الدين . ويتم ذلك على النحو التالي :
• يقوم رجال الدين بتضليل الأتباع .. لتحقيق السيطرة على الشعب ، وتحقيق الكسب المادي ، إلى جانب تحقيق ذات ..!!!
• يقوم رجال الدين بممارسة أساليب " غسيل المخ الجماعية " لزرع الوثن في فكر الأتباع منذ الطفولة .
• يقوم رجال الدين بإرهاب الأتباع من الديانات الأخرى ، وخصوصا الإسلام ، والحث على رفض الحوار بشكل مطلق مع الآخر خشية الفتنة .
• تغييب العقل والمنطق العلمي للأتباع عند الحكم على قضاياهم الدينية .
• فرض حصار فكري صارم على الأتباع ، وتقييد حرية الفرد منذ طفولته ـ إلى أقصى درجة ـ في فهم شروحات قضايا الدين ـ حتى وإن بدت في غاية من الوضوح ـ إلا من خلال رجال الدين وكهنته ـ تحت زعم أن هذه القضايا غيبية لا يقوى على فهمها إلا المتخصصون منهم . وبهذا المعنى يصبح الفرد أسير لوعيه الديني المرسوم له من قبل رجال الدين بشكل شديد الوضوح ..!!!
• علاقة الإسلام بالآخر ..
ونختم هذه البحث ؛ بعلاقة الإسلام بالآخر غير المسلم .. فكما سبق وأن بينا بأن الكتاب المنزل من الله ( عز وجل ) ـ القرآن المجيد ـ هو بلاغ للناس .. حيث يرتبط هذا البلاغ الإلهي ـ في الديانة الإسلامية ـ بأمور فكرية كثيرة منها الأمور الأربعة التالية :
أولا : حرية الفرد في الإيمان أو الكفر ..
[ وَقُلْ الحَقُّ مِن رَّبـِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيـُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْـفُرْ .. (29) ]
( القرآن المجيد : الكهف {18} : 29 )
ومن منظور هذه الآية الكريمة يصبح لا معنى للأسئلة التي تثار مثل : هل يعتقد المسلمون أن الإسلام يجب أن يتصادم مع الكفر ؟ وهل الغرب يمثل الكفر ؟ وهل " الكفر " يشمل المسيحيين واليهود فقط ، أم يشمل المتدينين الهندوس والبوذيين وباقي الأديان أيضا ؟ ( أثار هذه الأسئلة النائب السابق للمخابرات الأمريكية ـ CIA ـ جراهام فوللر ) .
وللرد على هذه الأسئلة .. أقول بأنه من الأمور البديهية ؛ طالما وأن الله ( سبحانه وتعالى ) قد أباح للإنسان حرية الإيمان أو الكفر .. فهذا يعني .. أن على المسلمين التعايش السلمي مع الكفار ( من لا يؤمن بإله ) .. وأتباع كل الديانات المختلفة .. أي المشركين ( من يعتقد في تعدد الآلهة أو في إله آخر غير الله .. الإله الحق ) كل على حد سواء . وليس هذا فحسب بل أن المولى ( ) قد فرض على المسلمين أيضا تقديم الحماية للمشركين إذا لجئوا إليهم وطلبوا منهم الأمن والأمان .. كما جاء في قوله تعالى ..
[ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) ]
( القرآن المجيد : التوبة {9} : 6 )
أي إذا لجأ المشرك إلى المسلم طلبا للحماية من خطر ما .. أي استجار المشرك بالمسلم ( لاحظ المصدر من جار .. وما للجار من حقوق ) .. فعلى المسلم أن يجره ـ بأمر إلهي مطلق ـ أي أن يقدم له الأمن والحماية ويرافقه حتى يصل إلى مكانه الآمن .
وتأتي عظمة السياق القرآني في قوله تعالى [ .. ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ .. ] بعد أن يسمع كلام الله ( سبحانه وتعالى ) [ .. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ] . أي أبلغهم مأمنهم في الحياة الدنيا .. ومأمنهم في الآخرة بأن تسمعه كلام الله ( ) . وهكذا ؛ يتجاوز عطاء المسلم للمشرك [10] .. من أمن الدنيا إلى أمن الآخرة أيضا .. ثم يتركه لعقله .. فلم يشترط المولى ( عز وجل ) إسلام المشرك لتبليغه مأمنه .. فليس على المسلم سوى البلاغ ..
[ .. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ .. (48) ]
( القرآن المجيد : الشورى {42} : 48 )
حيث ..
[ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .. (256) ]
( القرآن المجيد : البقرة {2} : 256 )
أي ليس على المسلم سوى أن يُسمع المشرك كلام الله ( عز وجل ) فحسب .. وأن يبلغه مأمنه في الحياة الدنيا وفي الآخرة .. ثم يتركه .. فإن أسلم ـ هو بعد ذلك ـ وآمن بالإسلام ( العهد الحديث ) .. فهذا حظه وقدره في تحقيق الغايات من خلقه .. وإن لم يؤمن فهذا هو محض اختياره .. وعليه تبعات هذا الاختيار . فهل يوجد سمو في الأخلاق أعلى من هذا ..؟!!! ولهذا جاء قول الرسول الكريم ( ص ) عن بعثته بالحديث المتفق عليه ..
[ إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ]
كما لخص المولى ( ) موقف الرسول الكريم في الرسالة الخاتمة بقوله تعالى ..
[ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) ]
( القرآن المجيد : الأنبياء {21} : 107 )
ثانيا : حرية الفرد في اعتناق ما يشاء من أديان ..
[ لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ... (256) ]
( القرآن المجيد : البقرة {2} : 256 )
ثالثا : لا وصاية ـ حتى للأنبياء ـ على إيمان الأفراد ..
[ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) ]
( القرآن المجيد : الغاشية {88} : 22 )
[ … أفأنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنِينَ (99) ]
( القرآن المجيد : يونس {10} : 99 )
[ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ .. (48) ]
( القرآن المجيد : الشورى {42} : 48 )
[ التفسير : فإن أعرضوا : أي أعرضوا عن الإيمان / حفيظا : أي لست موكلا بهم لتحاسبهم على أعمالهم .. لأن الحساب هو مسئولية المولى عز وجل .. ]
[ .. فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) ]
( القرآن المجيد : الرعد {13} : 40 )
رابعا : التجرد من الهوى عند القيام بهذا البلاغ الإلهي ..
[ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أعْلَمُ باِلْمُهتدِينَ (56) ]
( القرآن المجيد : القصص {28} : 56 )
وبديهي ؛ بمثل هذه المعاني لا يمكن أن يقوم انتشار الإسلام علي السيف بأي حال من الأحوال بل قام فعلا ـ ويقوم حتى نهاية التاريخ ـ على العقل والمنطق العلمي [11] . وبهذا تنحصر رسالة الرسل والأنبياء في الفكر الإسلامي في القيام بالبلاغ الإلهي والدعوة الأولى فحسب . أما استمرارية الدعوة .. فهي المسئولية الملقاة على عاتق كل مسلم قادر علميا بالقيام بها .. لقوله تعالى لرسوله الكريم ..
[ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) ]
( القرآن المجيد : يوسف {12} : 108 )
وإلى حديث آخر إن شاء الله تعالى ..
**************
هوامش المقالة :
[1] المرجع الأجنبي هو :
“ World Religions, From Ancient History to Present ” , Geoffrey Parrinder , New York pp. 9 .
[2] وصياغة هذا التعريف باللغة الإنجليزية هو كالآتي :
" Belief in and reverence for a supernatural power recognized as the creator and governor of the universe . "
[3] وصياغة هذا التعريف باللغة الإنجليزية هو كالآتي :
" The recognition of superhuman controlling power, and especially of a personal God , entitled to obedience "
[4] " قاموس وبستر الموسوعي المطول : Webester's Encyclopedic Unabridged Dictionary " . ويأتي التعريف باللغة الإنجليزية كالتالي :
“ A specific fundamental set of beliefs and practices generally agreed upon by a number of persons or sects: the Christian religion. ”
[5] " الدين والسياسة في الولايات المتحدة / الجزء الأول " ؛ مايكل كوربت ، وجوليا متشل كوربت . ترجمة د. عصام فايز ، د. ناهد وصفي . مكتبة الشروق . ص : 12 .
[6] أميل دوركايم : Emile Durcheim ( 1858 - 1917 ) فيلسوف فرنسي ( وهو يهودي الديانة ) . أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث .
[7] عمانويل كانط Immanuel Kant ( 1724 - 1804 ) : فيلسوف ألماني . يعتبره الغرب واحدا من أعظم الفلاسفة فى جميع العصور .
[8] فريدريتش ماكس ملير ( Friedrich Max Müller ) عالم ألماني ظهر في متصف القرن التاسع عشر ولقب بـ : " أبو الديانات المقارنة " .
[9] " الدين والتحليل النفسي " ؛ آريك فروم ، ترجمة فؤاد كامل ، مكتبة غريب .
[10] من العظمة القرآنية أيضا في هذه الآية الكريمة السابقة عدم استخدام كلمة " كافر " بدلا من كلمة " مشرك " لأن الكافر لا يؤمن بوجود الله ( عز وجل ) أصلا .. بينما المشرك يؤمن بهذا الوجود .. ولكنه أخطأ في التوجه فقط لذا ففرصة إيمان المشرك أكبر منها من فرصة إيمان الكافر .
[11] مازلت أكرر ندائي إلى " المملكة العربية السعودية " .. لاستبدال السيف الموجود على علمها بكتاب مفتوح للإشارة إلى أن : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " .. لم تنتشر بالسيف كما يدعي الغرب علينا بهذا .. بل انتشرت بالعقل والمنطق العلمي من خلال القرآن المجيد .
الموضوع الاصلي
من روعة الكون